شبكة قدس الإخبارية

الشُّجاعية.. جوريتي الحَمراء

هيئة التحرير

نيرمين الجدي- غزة

تزينت شوارعها بالدم، هكذا اكتست وكانت حلّتها الجديدة. لم أكن أعي حجم مصابها، ولم يخطر ببالي لحظةً أنها تنزف وجعاً، وأن دماء رياحينها سالت كالوديان، أهلها خرجوا من بيوتهم للبحث عن بصيص حياة.

أي غصة تلك التي ضرجت وسادتي بالخذلان، لم ينتبه أحد من المذيعين في أثناء نقل الخبر، وتغطية الحرب على غزة، لم يعي أحد وجعها إلا من عاشت به، وعاش بها، إلا الغلابا من أهلها، كيف لهم أن يرحلوهم من بيوتهم؟ هل عادت النكبة؟ وهل يتوالد النزوح من جديد؟ كيف لهم أن يقتلوا أطفالها أو يتركوهم جرحى حتى الموت؟ تساؤلات كادت أن تذبحني.

الشُجاعية، أحد الأحياء الكبرى شرقي مدينة غزة، يقطنه أكثر من مائة ألف نسمة، يحاصرها الاحتلال الإسرائيلي منذ زمن، تقصف بأكبر عدد من الذخائر، أطفالها ملقون في الشوارع، منهم من ينزف ومنهم من استشهد، والآخرون في الطريق إلى الموت.

لم أجد عائقاً في إحضار حقيبتي الصغيرة، ولم يكن طفلي البكرزياد يشكل مانع ليردع عقلي بالعودة عن أفكاره. حملت نفسي بخفة، ومشيت في شوارع المخيم التي تضج بحركة الشاحنات واللاجئين من الحدود إلى معسكر جباليا، لظنهم أنه نقطة أمان بعيدا عن الصراعات وصوت الدبابات

"لا نحتاج لراكب.. لا لا اكتفينا.. يا أختي، إذهبي بطفلك إلى بيتك.. الشجاعية مدمرة"، تلك كانت ردود السائقين عندما طلبت منهم الذهاب إلى حي الشجاعية. لم تدفعني إجاباتهم الساخطة إلى العودة عن منالي، بل زادتني شغفا لمعانقتها أكثر فأكثر، وعلى عجلةٍ، يمر سائق من أمامي، لأردد: شجاعية فيقول: لا يا أختي، ولكن سأوصلك إلى أقرب مكان ستذهبين منه إليها.

لم أكن أدري ما تخبئه تلك المرايا الواسعة في الطريق إلى الحي المنكوب، على حد قول السائق، كانت صدماتي تتسع فجواتها كلما اقتربنا أكثر فأكثر من شوارعها، حتى القبور لم تعد قبورا بها، لم يبق منها إلا القليل، إلا الشواهد، الألعاب المحروقة والأشجار المبتورة .

كنا وطفلي الوحيدين في مدخل حي الشجاعية المكلوم، استمرينا بالتجوال والتقدم القليل فالقليل، لم يكن وجع الدمار الذي ألم بالمكان أوسع من وجع الذكريات التي دفنت الأماكن، فهناك كنت ألعب مع صديقاتي. وفي الجانب الأيمن من الشارع مسجد الحي الذي طالما تسابقت وأخواتي لحفظ القرآن فيه. لم أكن أدري على أي ذكريات أدوس؟

ربما في هذه البقعة ذكرى لجاري، وذلك مكان شرب الشاي لجارتي. وهنا، كانت محبوبة الجيران سارة تلعب بلعبتها قبل أن تبتر القذائف يدها وعنقها، كانت الأوجاع تتجول بين الركام، وكانت الحسرات ترفرف في المكان، بجانب البيوت التي ضاعت معالمها والشوارع المضرجة بالدماء، أضحى كل شيء فيها صامتاً بدون صوت، بدون رائحه ويخلو من الألوان إلا الرمادي، كما لم يكن من قبل، على الرغم من البيوت المدمرة على امتداد النظر والذكريات المتعثرة المبعثرة.

هناك صوت أيقظني من صدمتي، ساعدني على أي طريق أتخذه، أخذ طفلي وأمسك يدي، إنه أبي، هدأ من روعي، وببطء لامني، وأنبني: كيف تأتين للموت يا أبي؟