شبكة قدس الإخبارية

مقال:الشباب وفعل التصنيف

عنان حمد الله

لا يمكن الجزم باللحظة التاريخية التي تحول بها "الشباب" "عالميا" إلى قطاعات/فئات لها سماتها وخصائصها، وان كانت ضبابية في كثير من الأحيان لاختلاف مرجعيات التعريف لكل منها على حدا –إن وجدت بصورتها الواضحة-، لكن ما يمكن قوله أن كيفية التعاطي في الأساس مع المجتمع بتقسيمه بهذا الشكل قد تبلورت في خضم تطور الرأسمالية الغربية بهدف "تطوير" أسواقها الداخلية والخارجية، وإحالة الاحتياجات الواقعية للأفراد والمجتمعات إلى احتياجات مصطنعة يتم تسويقها بناء على الLabel ، وتصنيفاتها الفرعية اللامتناهية التي تقبع تحتها، والذي بدوره (الفرد، من خلال عملية عزل عن البيئة الحاضنة أي المجتمع) يندرج في أسفل أسفلها في عملية استلاب ممنهجة. ولكن، في السياقات الاستعمارية يأخذ فعل التصنيف كفعل عنيف بالضرورة شكلا آخر من أشكال الهيمنة والاستلاب، وما هو أبعد من الغرض التسليعي كمسننات في ماكينة الرأسمالية العالمية. فعلى مستوى الخطاب ابتداء، كالاستشراق، يقول ادوارد سعيد أن الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه، وذلك في إطار ثنائية غرب-شرق التي تتيح للغرب في إطار معياريته الادعاء باستكشاف ما هو مجهول بالنسبة إليه (الشرق)، للحكم عليه ومن ثمّ تبرير ذاتها ككيانات استعمارية تحمل رسالة التمدين إلى العالم "الوحشي" –غير الغربي-. عندئذ، يتحول الاستشراق بمثابة إعلان الحرب على المجتمعات غير الغربية، مستهدفة بنيتها المنتجة للمقاومة (في إطار طبيعتها الخاصة والمتمايزة) كفعل سابق على الفعل الاستعماري، بهدف تفكيكها وإعادة تشكيلها بما يتناسب ومتطلبات السردية العالمية الموحّدة التي تحاول الكيانات الاستعمارية إنتاجها وتعميمها. وهذا ما يحيلنا إليه جان بودريار عندما يتحدث عن أن "العالمية" المتوخى تصديرها وزراعتها لا تطيق الخصوصيات (أيا كانت) فهي تقف عائقا أمام العالمية ذات المضمون الأيديولوجي الذي يضمن اليد الطولى للغرب في بقاع العالم المختلفة، فتسعى إلى إخضاع الثقافات المتعددة لها. وهذا ما تطور على يد الآلة العسكرية للاستعمار ومؤسساتها المختلفة، في محاولتها لإخضاع المجتمعات الخارجة عن فلك "العالمية"، باعتبارها البيئة الحاضنة والمؤسِّسة للفعل المقاوم في مواجهة الهيمنة المادية وعملية السطو على الخصوصية، ضمن ما بات يعرف بالتدخلات "المدنية والتنموية" ذات الخلفيات العسكرية والأمنية (آليات كسب عقول وقلوب المستعمَرين لتفتيت البيئة الحاضنة للمقاومة)، التي تقوم على تصنيف المجتمعات إلى قطاعات جغرافية وبشرية تستلزم تدخلات موضعية تعيق حركة المجتمع الأصيلة وعلاقاته الخلّاقة وإمكانياته اللامتناهية، لتقيم مكانها آليات تأديبية تحد من ثرائها، وتجعلها محددة ومكشوفة المعالم يسهل السيطرة عليها والتنبؤ بصيرورتها إلى حد ما، وذلك في إطار تكامل المنظومة الاستعمارية ككل بمفاصلها المختلفة.  صناعة الشباب الفلسطيني نموذجاً  شكّل ما بات يعرف بعملية "السلام" (أوسلو) لحظة مفصلية من حيث مأسسة التحول في الحقل السياسي الفلسطيني وانعكاساته على الفلسطينيين، فمن مشروع تحرر وطني شعاره الأساس معركة وجود لا معركة حدود، إلى مشروع بناء دولة تبلورت أولى إرهاصاته مع إقرار البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بالتزامن مع إطلاق مشاريع بناء الأمة/الدولة-بناء السلام التي قادتها القوى الاستعمارية الغربية (المجتمع الدولي) لإعادة هيكلة المجتمع الفلسطيني تحت غطاء العملية (كاسم موحي بالطمأنينة وهو في واقع الأمر كان ومازال حصان طروادة الغربي الحديث في فلسطين وغيرها)، بهدف تحديد وعزل ومن ثم استبدال مفاصل المجتمع المولّدة للمقاومة.  فإلى جانب الدور المتواطئ للسلطة الفلسطينية وليدة العملية في إرساء هذا التحول بتبنيها مشروع بناء الدولة الوهمي، لعبت مؤسسات المجتمع المدني دور الوكيل المحلي في تلك المشاريع، وعمدت إلى إرساء التصنيفات من تقسيم المجتمع الفلسطيني إلى قطاعات كالشباب/المرأة/الطفل/المهمشين في خطابها وممارستها على حد سواء ضمن كل من التمويل والأجندات الغربية، لتشكّل الأرضية الفكرية والعملياتية لتلك المشاريع لضمان استمراريتها. في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى تقرير معنون ب "البناء من أجل السلام" صدر عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى التابع لمنظمة آيباك الصهيونية في الولايات المتحدة إحدى روافد السياسة الأمريكية، بعيد إرساله لمجموعة من الباحثين للوقوف على وقائع الانتفاضة الأولى ومآلاتها، حيث جاء فيه:"الانتفاضة كان لها أثر التطرف على سكان الأراضي الفلسطينية، فهي لا تمثل مجرد تمرد ضد إسرائيل، ولكنها أيضا تحمل اضطرابات حقيقية داخل المجتمع الفلسطيني، فمع الشباب (حوالي 75 في المئة من السكان هم تحت سن 30) وسكان مخيمات اللاجئين الذين ساهموا في إملاء وتيرة وكثافة الأحداث. وهذا يعني أن العنصر البرغماتي – النخب التقليدية ونخب الطبقة الوسطى في الضفة الغربية الذين كيّفوا أنفسهم مع الاحتلال الإسرائيلي- قد تعرّض للتقويض والترهيب". من الملاحظ، أن التركيز تموضع حول التغييرات الديناميكية في المجتمع "ككل" (تجاوزا)، فلولا تكامل المنظومة الاجتماعية الصاعدة لما كان يمكن الحديث عن دور للشباب في إعادة تشكيل علاقات القوى داخل المجتمع، فالانتفاضة من منظورنا لم تكن فعلا شبابيا بقدر ما كانت فعلا جماهيريا وشعبيا متكاملا، ولم يعتبر الشباب فوق الواقع الاجتماعي والسياسي، بل تعبير عن الحقيقة الديمغرافية وطبيعة العلاقات الاجتماعية للبوتقة الجامعة. ولذلك، ما تم من عملية إخراج للشباب من داخل تلك البوتقة إنما كان الغرض منه إلحاق الضرر بالمنظومة الاجتماعية، والعمل على تأسيس مجتمع بديل لواقع بديل، يكون فيه الشباب إلى جانب بقية الملصقات التصنيفية ضمن علاقات افتراضية مُقرّة لتشكيل المجتمع الافتراضي المنشود. وهنا يطرأ السؤال حول كيفية الوقوف على هذا النوع من الاستلاب. التحرّك المضاد أم "الخصوصية"  تشكلت على اثر الثورات العربية (هنالك من يستخدم ثورة الشباب في تونس/مصر)، الحراكات الشبابية الفلسطينية، تراوحت ما بين شكل هجين للبنية التحتية (المصنوعة) التي تم تأسيسها سابقا بالتقاطع مع تأثير الثورات، وأخرى أخذت منحى صياغة تجربتها على ضوء تجربة الثورات العربية. استطاعت الأخيرة، الخروج من قفص قضايا الشباب والحقل السياسي البديل، برفعها شعارات تعيد التركيز على الواقع الاستعماري لفلسطين، وأحيانا توسيع أفق المطلبي وربطه بالسياسي، في حركة شبابية مضادة لنموذج الشباب البديل، إلا إنها لم تفلح في توسيع حيّزها الأفقي ليمتد إلى حراك جماهيري. ربما سيعزو البعض الخلل إلى الإشكاليات الداخلية التي تواجها تلك الحراكات من تركيبة وطرق عمل وما إلى ذلك، أو إلى حالة التشويه التي ألمت بالقواعد الأساسية للمجتمع الفلسطيني نتيجة فعل المنظومة الاستعمارية وبالتالي عدم تجاوبها. ولكن ما الذي يفسر ما تشهده العديد من المناطق من حالة غليان في الأراضي الفلسطينية المحتلة على امتدادها، والاصطدام والتماس اليومين (مقاومة يومية)، واتساعها واشتداد حدّتها عند الأحداث الوجودية المتعلقة بالقضايا الوطنية، ولم تصنّف نفسها ضمن أي من التصنيفات المُحدثة ولم تعمل ضمن آلياتها؟ -لا يشمل هذا الفعاليات التي تغذيها السلطة الفلسطينية وتقوم بالحشد لها لتجييرها لصالح مشروعها السياسي-. ربما كان ذلك تعبيرا عن رفض ضمني للتصنيف وأشكال التحشيد المُحدثة، وربما هي الخصوصية العصية والرافضة بطبيعتها للبديل "المطوّر" الذي لم يستطع استيعاب الحركة الاجتماعية وضمها كما لم تستطع آليات الاستعمار تفكيكها وان كانت تحاول جاهدة القضاء عليها. ومتى استطعنا الانخراط فيها وإدراكها وتغذيتها، ربما حينئذ ستتكشّف احتمالات وآفاق كانت طي التهميش المتعمّد، فكما ينوّه بودريار: "البدائل الإيجابية لا يمكنها أن تهزم النظام، بل تهزمه الخصوصيات. والحال فالخصوصيات ليست جيدة أو سيئة، وهي ليست بديلا له، بل هي من نظام آخر. ولا تخضع لحكم قيمة، ولا لمبدأ الواقعية السياسية، فقد تكون الأفضل أو الأسوأ. ولا يمكن توحيدها في حركة تاريخية، فهي مفشلة لكل فكر أحادي ومهيمن، ولكنها ليست سلطة مضادة أحادية، فهي تبتكر لعبتها، وقواعد هذه اللعبة."