شبكة قدس الإخبارية

هاشم العزة...وتل رميدة العزة

حلا مرشود

سأسرد لكم في هذا النص قصة انسان. شخص مميز، رهيب بقوته، انسان "صامد" فعلًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. لن اسرد لكم سيرته الذاتية، لانه اكبر من ذلك، فقصته هي قصة بلد، هي قصة حي، هي قصة شعب. سأسرد قصة الشهيد هاشم العزة، ومن خلالها سأسرد قصة تل الرميدة في الخليل وزيارتي الاولى لها.

لقد زرت هاشم العزة في بيته قبل عام تقريبًا، ضمن مشروع تواصل وعودة. كانت اول مرة ازور فيها تل الرميدةـ في هذه الزيارة اصابني نوع من الافشاء، نوع من المجاهرة، اذ اكتشفت انني قادرة على حمل شعور الحقد والغضب بشكل غير محدود.لا، انا لم اتفاجأ من الاحتلال، فانا واعية تمامًا ماذا يعني احتلال، ولا انا لم اتفاجأ من صمود اهل البلد، فقصة حياتنا الجمعية كفلسطينيين يمكنها ان تتلخص بهذه الكلمة، لكني لم اكن اعي ماذا يعني ان يدخل الاحتلال في ابسط تفاصيل حياة الانسان، ولم اكن اعي ماذا يعني ان يكون النضال هو المكوّن الاساسي في حياة الانسان، وليس فقط حالة موسمية تأتي وتذهب.

اتذكر اننا حينما دخلنا تل الرميدة وشارع الشهداء تحديدًا، طبعًا بعد المرور من حاجز وبعد تحمل قذارة بعض الجنود، بدا لنا المكان مهجور وخالٍ من السكان، فالدكاكين مغلقة، والبيوت تبدو وكأنها مقفلة لم تطأها قدم، لكننا عرفنا ان الجيش يأمر باغلاق دكاكين التجار ويمنع السكان من التجول حين يحلو له. التقينا بهاشم على باب احدى البيوت الجميلة والتعيسة، عرّفنا عن نفسه ومشينا وراه. لم اكن اعرفه، ولم اسمع عنه من قبل، ولم اكن اعرف ان هذا الانسان هو تجلي لعدة معاني كنت ارددها دومًا برومانسية معينة، اصبحت فجأة واقع فظيع امامي.

مشينا معه الى بيته، فلا يكفي ان يخبرنا ان عليه ان يمشي طريق جبلية صعبة كي يصل بيته لان الجنود يمنعوه من الوصول بشكل طبيعي، انما علينا ان نمشي هذا الطريق الشاق كي نفهم ماذا يتحمل هذا الانسان يوميًا. مشينا بصمت تام، ليس من أجل ان نستمع الى هاشم فحسب، لكن ايضًا لاننا كنا محبطون، محبطون من اللحظة الاولى الى خطت رجلنا تل الرميدة، محبطون لأننا لم نكن نفهم كيف لهذا الانسان ان يسرد لنا قصة تعيسة لهذه الدرجة، لكنه يبعث أمل وتفاؤل شديدين. في نقطة معينة على هذا الطريق الصعب والمرتفع، المليء بالحجارة، وقفت انا واحدى المشاركات في المشروع ننظر  تحتنا الى مستوطنة "بيت هداسا"، والى مشهد المستوطنون الذين يمشون بكل أريحية يضحكون مع الجنود، وقفنا لبضعة دقائق، يملأنا الصمت، لكننا نعرف ان في اذهاننا تدور نفس الافكار وعلى قلوبنا تسيطر نفس المشاعر. التقطت انفاسي، واستمريت بالمشي وراء هاشم، استمع اليه وعيوني محدقة، تحاول جاهدًة ان تدمع لكنني منعتها وقمعتها، لاني لا اريد ان ابكي امام صمود هذا الانسان، ولأنني لم ارغب في ان يرى هاشم انني كالغريبة التي لا تعي شيئًا. وصلنا الى بيته، وتعرفنا على زوجته نسرين واولاده، وعلى الارانب التي يربونها الاولاد ويلعبون معها. جلسنا في ساحة بيته، امامنا دار بنية كبيرة يحيطها سياج كبير، تأملنا الدار للحظة، قبل ان يقول هاشم ان هذا البيت هو بيت باروخمارزل! نعم، ان باروخمارزل يستوطن في الدار المجاورة لبيت هاشم.

حدثنا هاشم عن اقتحامات الجنود الشهرية لبيته، حيث يقومون بتكسير كل ما يرونه امامهم، ويعتدون على نسرين وعلى الاولادـ، ويعتقلونه بعد ان يعتدوا عليه بالضرب المبرح، حتى ان كسروا له اسنانه في احدى المرات. حدثنا عن خوفه الشديد على اولاده حين يخرجون للعب، اذ قام مستوطنو "رمات شاي" بالاعتداء عليهم ليس مرة او مرتين، بل مرات لا تُحصى، ادت الى تكسير ايدي ابنه. حدثنا عن قطع الجنود للماء والكهرباء، وكيف كان عليه ان يوفر الماء لبيته بطرق عديدة، لم تخطر في بالي انها ممكنة، لاني لم اعش حالة انقطاع ماء يومًا. حدثنا وحدثنا وحدثنا، وسمعنا وسمعناوسمعنا ونحن ننظر تارة الى اليه، وتارة الى الاولاد الذين يلعبون مع الارانب، وتارة الى المستوطنة القريبة جدًا من البيت بشكل مخيف.

دخلنا الى البيت، وجلسنا في الصالة امامنا تلفاز، اذ اراد هاشم ان يعرض لنا فيديو قد يختصر العديدمما حدثنا عنه ببضعة دقائق. تفاجئنا حين عرفنا ان الفيديو هو فيديو انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي وتناوله العديد من الناشطين والناشطات، وغالبيتنا قد رأته، وهو فيديو يظهر مستوطنة تصرخ على امرأة فلسطينية بالفاظ نابية، بذيئة، يمكن تلخيصهابالعنصرية والذكورية. من كان يعرف ان المرأة الفلسطينية التي تظهر في الفيديو هي نسرين، زوجة هاشم، التي كانت تجلس وقتها في بيتها مع قريبتها لوحدهن. شرحت لنا نسرين ان هذا المشهد هو مشهد شبه يومي. في هذه اللحظة حدثت المجاهرة، وتراكم بداخلي كل الكم الهائل من المعلومات الذي حصلت عليه، حتى شعرت بحقد رهيب، بغضب شديد.اقتربت ساعة الذهاب، بعد ان شربنا العصير وأكلنا الكعك في ساحة بيتهم الجميلة التي شهدت على الجرائم.

عدنا الى بيوتنا، وبالكاد تحدثنا مع بعضنا، بل صمتنا. وصلنا الى بيوتنا، ونحن صامتون. في اليوم التالي، لم اتوقف عن التفكير بهاشم، بنسرين، بالاولاد، بساحة بيتهم، بنظرة هاشم الحزينة، بأبتسامته الرقيقة، اصبحت اراجع المعلومات والتفاصيل في عقلي، وانا صامتة. هو  أمر غريب، هذا الصمت الذي حل علي، فانا صاحبة الامتيازات التي كانت عالقة في التفكير والتحليل ولم تفكر يومُا بحياة الناس اليومية، ولم تكن تعرف اكثر من التزود بشعارات رنانة تعبر عن ارادة الحرية، وتعبر عن فظاعة الاحتلال، لكنها تجهل تفاصيل الفظاعة. انا التي تعرف نظريًا ماذا يعني احتلال، وسمعت قصص التهجير والنكبة مرات لا تعد ولا تحصى، لكنني في هذه الزيارة كنت كالمتضامنة الاجنبية التي لا تعرف شيء، وهنا استوعبت ان غضبي كان على نفسي اولًا، غضبت على نفسي لاننيتفاجئت من المشاهد، لانني كالسائحة الاتية من بعيد.لم اشعر بمثل هذا الصمت حتى تاريخ 21.10.2015، حين وصلني خبراستشهاد هاشم جراء استنشاق الغاز المسيل للدموع. صمتت، حدقت، وهذه المرة لم اقمع عيوني، ولم اكبت دموعي، وبكيت. بكيت، وانا اتذكر تلك النظرة وتلك الابتسامة، بكيت وانا افكر بنسرين والاولاد، بكيت وانا افكر بحقارة العالم، بكيت وانا خائفة، خائفة ان يكون استشهاده نهاية لقصة الصمود. الان، يمكنني ان أقول وداعًا هاشم، لكن لن اقول وداعًا تل الرميدة، لأنني اعرف ان هناك من يحميها، فخلال كتابتي لهذا النص، كانت تصلني اشعارات تخبر عن عمليات وشهداء في الخليل، وفي هذه اللحظة شعرت انه لا حاجة للخوف على بلادنا، ولن تكون هذه نهاية لقصة صمود.