شبكة قدس الإخبارية

مفهوم اللاعنف

أحمد درويش
على مر العصور كان التعاطي مع مفهوم اللاعنف باعتباره أحد أساليب المقاومة وإن اختلفت نتائج كل تجربة عن الأخرى، لكنه كمفهوم من حيث فلسفته يهدف لإبراز حق شعب أو مجتمع في ممارسة الاعتراض القولي والحركي على وضع ما قد يكون استبدادا كما في تونس ومصر، وقد يكون استعمارا كما هي الًهند قديما وفلسطين حاليا. ما يهمنا هنا هو كيف يتطور المفهوم سلبا أو إيجابا فينحرف عن معناه الحقيقي في الحالة السلبية ويُصرف لغير ما وُجد له، أو يتطور في الحالة الإيجابية ليأخذ بُعدا فلسفيا أعمق وتجربة عملية أنجع من خلال الممارسة والتطوير وصولا للهدف المنشود الذي قامت من أجله حركة اللاعنف. في فلسطين يُخبرني الأصدقاء أن لا استخدم هذا الاسم (اللاعنف) كونه يُعبّر عن حالة ممارسة لا تعكس جوهره على الأرض، وحقيقة الأمر أن كل اسم يُعبّر عن حقيقته على الأرض، هذا الأصل، ولو سلّمنا لأي اسم آخر ستبقى المشكلة قائمة في انعكاس المفهوم على الأرض سواء أسميناه بالنضال الشعبي أم بالمقاومة الشعبية أم بغير ذلك من الأسماء، فما أهمية الإسم إن لم يتبع لفعله ونتائجه على الأرض؟ وما يعكسه مفهوم اللاعنف في فلسطين هذه الأيام قد يعني عدة أمور متناقضة، وذلك بحسب من يتبناه ويسعى كما قلنا إما لحرفه عن معناها الحقيقي، أو من يسعى لتطويره واستخدامه ضمن إطار المقاومة وما تعنيه هذه الكلمة من عنفوان خاص في قلوب الفلسطينيين. لن ندخل في معركة مع من يتبنى خيار اللاعنف بمعناه السلبي، فما يهمنا هو الحفاظ على معنى الاسم وتجلياته على الأرض في المقام الأول، وكيف نُطوره عمليا في المقام الثاني وإن تعددت أسماءه ومعتنقوه. اللاعنف أو النضال الشعبي أو المقاومة الشعبية هي أسماء تُعبّر عن حالة غير عسكرية في المقلم الأول، فهي تشارك المقاومة العسكرية في صراع المحتل وفي مقاومة مُغتصب الأرض ولكنها لا ترى حصر المقاومة في العسكرة ، بل هي أوسع مجالا من حصرها في نوع واحد، لذلك هي مقاومة مدنية غير عسكرية لها أدواتها الخاصة التي تتميز بها عن المقاومة العسكرية. وهي شعبية من حيث معتنقيها، فهي تعم ولا تخص بعكس ما يُعرف في المقاومة العسكرية عادة، وهي تخاطب الشعب بمختلف أطيافه، صغيره وكبيره ، شيبا وشُياّبا ، فهي تخاطبهم في المقام الأول ليكونوا المكون الأساس في المقاومة ، ومن ثم ليكونوا هم عنوان المعركة ضد المحتل، وهي بذلك تجعل من المجتمع عنوانا للمقاومة، فاعلا فيها وليس شاهدا عليها، إنها تؤمن به بمجرد أن يكون جزءا منها، ولا تطالبه بأكثر مما يمليه عليه ضميره من قوة التمسك بأرضه وما يبدعه عقله من أساليب تهز أركان المغتصب. إن المقاومة المدنية هي عنوان آخر إلى جانب كل أشكال المقاومة الآخرى، إنها تؤمن بأن إعطاء الفرصة للمحتل بعقد هدنة بهدف الاستقرار أمر يُخالف عقيدة كل مقاوم، فهو إن هادن في جانب فتح جانبا آخر، وما عملية تحرير الآسرى مقابل الجندي شاليط وما تلاها من إضرابات فردية وجماعية سوى استمرار للمعركة ولكن بأساليب وطرق مختلفة. هي الحرب إذا لا تضع أوزارها، إنها تتنقل من ساحة إلى آخرى، ومن كتيبة إلى مجتمع، ومن يؤمن بحق المقاومة لا يركن لعجز الوسيلة الواحدة التي قد تخذله أحيانا أو تكون عليه هما، فهو يتنقّل من وسيلة إلى وسيلة بنفس الإيمان وقوة الفعل في جبهات متنوعة، مُقدّرا ظروف كل جبهة وإمكانياتها ..ولكنها تشترك كلها تحت عنوان واحد: لا راحة لمغتصب على أرض يُؤمن أهله بحقهم. سيسأل البعض: كيف نُفرّق بين ما هو سلبي أو إيجابي في مفهوم اللاعنف؟ وهو سؤال يجعلنا نسأل أنفسنا أيضا: هل ما يتم على الأرض يحافظ على المفهوم ويعززه أم يُفقده معناه ويدور بنا في حلقة لا معنى لها في دائرة الصراع مع العدو؟ ومن حق الكل أن يختار معاييره، فالمقاوم تتحرك بوصلته لتستقر على الطريق الصحيح في النهاية وهو يعلم أن أي مقاومة شعبية عليها أن: - تؤمن بأنها مقاومة مجتمع بكل أطيافه ومكوناته فلا أحد يحتكرها أو يدعي فضلها. - أدواتها مدنية، فهي تستخدم الاضرابات والعصيان المدني وترفض كل أشكال الحياة الطبيعية مع مغتصب الأرض. - ذات أثر فعّال على الأرض فهي تُرسّخ شعورا ثابتا بأن المقاومة لا تتوقف، وتقتلع حقها الذي هو لها بالأصل من جلادي الأرض والإنسان. - تتطور باستمرار، فكل وسيلة ناجحة يتم تعزيزها، وكل وسيلة لا تُضايق العدو وتجعله يعيش في مأزق يتم تنحيتها أو إصلاح الضعف الذي يعتريها. - ذات أثر يمكن تحديده بدقة، فإضراب الأسرى مثلا الهدف منه إمّا تعزيز حقوق لهم داخل السجون أو الإفراج عنهم ، ويمكن حساب ذلك بشكل دقيق دون مواربة من الحقيقة. - تعزيز ثقة الشعب بنفسه من خلال النجاح الذي يحققه هذا النوع من المقاومة. - ان الايمان بفلسفة اللاعنف لا يعني ان الوسائل الاخرى غير مجدية ، فكل وسيلة تخدم جانبا معينا في الصراع والاهم ان تتكامل الوسائل في خدمة ذات الهدف. هي إذا ذات المقاومة بمسمّيات مختلفة، يحلو للبعض تحريف الاسم والمعنى ليعود إلى ذات الطريق المسدود، وهي لدى البعض الآخر مسار جديد يمكن تعزيزه وتطويره وقياس نتائجه على الأرض. هو مفهوم يلعب اليوم دورا مهما في وعي الفلسطينيين، عاشه أجدادنا بشكله الطبيعي وعنفوانه الفطري في ثوارت فلسطين التاريخية ، وعزز وجوده شعبنا العربي الذي يأنف الذل والهوان في كل ربوع أوطاننا. النتائج وحدها هي من تحكم، وحتى يتحقق ما نرجوه من نتائج علينا أن نقف مع المفهوم وانعكاسه الإيجابي على الأرض، ونُنحي خداع الألفاظ الذي يتقنه البعض ليُفّرغ الأمور من معانيها. هي معركة مجتمع إذا يُعزز ما يراه ويؤمن به، ويكفر بما قد يجعله يوما من الأيام ألعوبة لحرب تغيير المفاهيم لحسابات شخصية أو حزبية لا تضع فلسطين وتحريرها نصب العيون والأفئدة. *الصورة من مظاهرات قرية النبي صالح. تصوير: تميمي برس ---------------------------------------------------------------------- تأتي هذه المقالة ضمن سلسلة بعنوان "مفاهيم"، وهي سلسلة مقالات متعلقة بالقضية الفلسطينية وتفاعلاتها. تحاول تسليط الضوء على عدد من المفاهيم التي تُطرح وتُمارس اليوم على الأرض، وبيان الأثر الذي قد ينتج عن التعامل مع هذه المفاهيم بشكله السلبي أو الإيجابي.