شبكة قدس الإخبارية

الشهيد محمود الطيطي.. أحلام قاتلها الواقع

أحمد يوسف
عامان خلف قضبان الاحتلال، وأكثر من ستة شهور متفرقة في سجون الأمن الوقائي، فيلم تمثيلي لم يكتمل وموقع إلكتروني بانتظار الترخيص، أسرى ودروع تكريمية للمضربين منهم عن الطعام، حب قاتل الانقسام إلى مالا نهاية، ووطن ضاق على ابنه وعاشقه حتى كاد يجبره على اللجوء، ثم رصاصة متفجرة أنهت كل ذلك بعد اثنين وعشرين عاما على صرخة الحضور الأولى. من سجون الاحتلال إلى سجون السّلطة مبكرا وكأنما يسابق الزمن دخل محمود الطيطي النشاط المقاوم، ففي أواخر العام (2007) حمل الطالب في الفصل الدراسي الأول بالثانوية العامة سكينا وتوجه للحرم الإبراهيمي، حيث يتمركز غربان موت الاحتلال، متربصين بالفلسطينيين المارين عن قدسية المكان بألم. والده عادل الطيطي قال لي: "إن ابنه لم يعتد حمل سكين في تحركاته اليومية، إلا أن سلطات الاحتلال وجدت بحوزته ما اعتبرته دليلا كافيا لتغييبه في سجونها قرابة العامين". أنهى الطيطي دراسة الثانوية العامة خلال اعتقاله محققا المركز الثاني على توجيهي السجون، وفور الإفراج عنه عام (2009) التحق بكلية الإعلام في جامعة الخليل، وقبل اكتمال الفصل الدراسي الأول كان اعتقاله الثاني، ولكن من ذوي القربى هذه المرة. وتقول والدة الشهيد، "إن الأمن الوقائي برر اعتقال ابنها بحمايته من الاحتلال، وهذا ما لم يتحقق، حيث فوجئت الأم بمرور أكثر من شهر على اعتقال ابنها البكر، وتلفيق تهمة له بحيازة متفجرات تؤكد العائلة أن الأمن لم يجد أيا منها في منزله. لـ (103) أيام ظل الطيطي قابعا في سجون الأمن الوقائي يتنقل من قسم إلى آخر، وتروي والدته لـ"شبكة قدس" وجعها المتكرر بعد كل لقاء قائلة: "إن نفسية ابنها كانت تكسر في كل زيارة"، وتوضح أنه احتجز خلال هذه الفترة مع اللصوص والمتهمين بقضايا جنائية، مستهجنة اعتقال شاب في مقتبل العمر دون تهمة واضحة بهذه الطريقة. وتوضح نقلا عن ابنها خلال زيارتها لها، أن الأمن أخرجوه من زنزانته بحجة عرضه على الطبيب ثم أعادوه إليها بعد إفراغها بالكامل، تاركين له فراشا أرضيا على الرغم من برودة الطقس في تلك الفترة وفق ما قالت. وبعد تجديد اعتقاله ثلاث مرات أخرجت العائلة ابنها بعد دفع كفالة مالية، لكن الشاب الذي اختلطت روحه بروح وطنه، لم يتوقف عن نشاطاته الوطنية، فبدأ بعد ذلك نشاطاته المساندة لقضية الأسرى مؤسسا حراكا شبابيا بهدف دعم قضية الأسرى على الصعيد الجماهيري. لكن هذا النشاط لم يلق القبول لدى العائلة التي بات الخوف مرتبطا بتحركات ابنها في كل وقت، إلا إن إجراءات العائلة الاحترازية ودعوات الأم المثقلة بالخوف على ابنها، لم تحمه من تجديد اعتقاله لثلاث مرات أخرى على ذمة ذات القضية، تقول أم محمود في إحدى المرات انتظروه في شوارع المخيم لدى عودته من بيت لحم، أشهروا في وجهه السلاح وجروه أمام أنظار أهل المخيم، وتتساءل "شويعني بدكم تربو المخيم في محمود؟!". ويؤكد والد الشهيد أن قائدا في الأمن الوقائي قال له أن ابنه اعتقل لدى الجهاز مرة واحدة فقط، مما يعني أن أشخاصا بالوقائي كانوا يعتقلونه دون إبلاغ قيادتهم، حسب ما قال.

الشهيد في بيته

أحلام قاتلها الواقع بعد العشرين ربيعا أخذت أحلام الطيطي تغريه بالاقتراب منه ثم هجره عنوة، فتنازل أولا عن حلمه بدراسة الإعلام تلبية لرغبة والده بالانتساب للقدس المفتوحة، واختار تخصص "التربية وعلم النفس" الذي لم يحبه يوما حسب والده. ويبين أبومحمود أن قرار نقل ابنه كان بهدف منع أي تواصل له مع الكتل الطلابية في الجامعة، قائلا "كنت أخاف عليه من معاودة اعتقاله لدى الأمن، فمحمود أرهقته كثيرا تجربته الاعتقالية الأولى لديهم، أردت له أن يكتفي بالتعليم والزواج والعمل كأي أب في العالم". لم يلتفت محمود لجثة حلمه الأول، وعلى وقع تحذيرات عائلته تابع الشاب نشاطاته في العمل الجماهيري لقضية الأسرى، فكان للحراك الشبابي لمساندة الأسرى أن يولد بعملية قيصرية من رحم صمت الجماهير تحت إشرافه، وتقول والدته إنها تابعت بقلق معلن وفخر خفي نشاط ابنها الذي يتوسع يوما بعد يوم. حاول محمود أن يعزز نشاط الحراك الشبابي بترخيص موقع إلكتروني وإطلاق إذاعة بحسب والده، فيما توضح صديقته والناشطة في الحراك مرام سالم أن محمود أراد لموقع الحراك الشبابي أن يكون مرجعية في أي خبر متعلق بقضايا الأسرى، بالإضافة لتأسيس مجلة مختصة في هذا المجال. وتبين سالم أن محمود حلم بامتلاك كاميرا فيديو لتوثيق نشاطاته، وبعد أن اقترب من جمع ثمنها دفع المبلغ كاملا ككفالة مالية للخروج من سجون الأمن الوقائي بعد اعتقاله الأخير. بدأ محمود بالتعاون مع سالم وآخرين للتحضير لفيلم تمثيلي موسع عن الأسرى الأطفال، ضمن مشروع من جزئين ينتج الأول منهما ويتابع العمل بالثاني في حال نجاح جزئه الأول. وتقول سالم حدثنا إلى العديد من طلبة الإعلام والعاملين في مجال إعداد الأفلام، كما نسقنا مع عدد من الأطفال الذين عانوا من تجارب اعتقالية. [caption id="attachment_6240" align="aligncenter" width="384"]درع كان قد اشتراه الطيطي لاستخدامه في فعاليات لأجل الأسرى درع كان قد اشتراه الطيطي لاستخدامه في فعاليات لأجل الأسرى[/caption] حتى الثلج لم يتركه محمود يمر دون أن يوقع باسم الأسرى عليه، وفي مكتبه دروع اشتراها ليهديها باسم الحراك إلى الأسيرين المضربين عن الطعام سامر عيساوي وأيمن الشراونة آنذاك، وفي حاسوبه الشخصي مازالت تصاميمه شاهدة على جهوده التي لاتتوقف. [caption id="attachment_6239" align="aligncenter" width="448"]صورة وجدناها في حاسوب الطيطي صورة وجدناها في حاسوب الطيطي[/caption] وتقول أمه أنها اكتشفت قبل اعتقاله أن ابنها لم يسجل في الجامعة خلال الفصلين الأخيرين، "علمت مصادفة أنه استخدم قسط الجامعة في التحضير لنشاطات خاصة بالحراك الشبابي لمساندة الأسرى". وحب أفسده الوطن المقسم وكما كسر محمود صمت الشعب على قضية أسراه، كسر صمته كذلك على حالة الانقسام السياسي، فأرسل قلبه إلى قطاع غزة باحثا عن نصفه الثاني هناك، ويقول والده أن ابنه صارحه برغبته الزواج من فتاة غزية، غير أن هذه الفكرة لم تلق قبولا لدى العائلة. ويوضح أبومحمود أن الرفض جاء اعتراضا على الواقع المر من حول العاشقين، فبدا واضحا أن كل السبل لجمعهما معا قد تقطعت، ويقول كنت أمازحه فأقول له إننا سنحضرها لك من خلال الأنفاق. ويتابع كانت فكرة إحضارها بعد تخفيف الحصار شبه مستحيلة، فالاحتلال منع محمود من السفر مرتين متتاليتين قبل ذلك، "كنت قررت إرساله إلى السويد للاستقرار هناك بهدف إبعاده عن الضغوطات المحتدمة هنا، لكن الاحتلال منعه في المرتين بعد أن دفع ثمن ضريبة المغادرة". وتبين أم محمود أن المنع الثاني جاء بعد أن وصل إلى الباب الخارجي، وبعد أن خرجت حقيبة ثيابه برفقة عمه لتكون المفاجأة المدوية بقرار منعه من السفر. وتضيف رفضت زواجه ممن أحب لأنني أم، وأعلم جيدا صعوبة ابتعاد الفتاة عن أمها كل هذه المسافات، ولو كان هذا الخيار لابنتي لما قبلت. وتواصل "أم الياسين" - كما أحبت أن تسمي نفسها نسبة إليه - الاتصال بعائلته يوميا، غير أنها اعتذرت عن الحديث عنه لـ "شبكة قدس" قائلة، "سامحوني الله يخليكم مش قادرة أحكي". قبل أن يطبق الموت فكيه وتسجل ذاكرة العائلة المتألمة بوجع الرحيل آخر اللقاءات والكلمات لابن ال (22) ربيعا، فتستذكر أن محمود قال لعمه في حوار مسائي قبل (45) يوما على رحيله، إنه سينفعه أكثر مما يتخيل حين يشفع له بدخول الجنة بعد استشهاده. قبل أربعة أيام من استشهاده دفع محمود حلمه باقتناء كاميرا ثمنا لحريته من سجون الوقائي، فغادرها بعد (45) يوما من الاعتقال دون أن يعلم هو أو هم أو جدران السجن أن هذا الاعتقال هو الأخير، وتقول والدته أنها لم تجالسه وقتا طويلا في البيت منذ خروجه، كما أنه بدا صامتا بعد الإفراج عنه بطريقة غير مسبوقة. على صفحته عبر موقع التواصل الاجتماعي كتب قبل يومين، "يا فلسطين احنا عشقنا الشهادة"، ليلة 12/3 سهر حتى الفجر مع رفاق له بالأردن بهدف التحضير لفعالية تضامنية مع الأسرى أمام سفارة الاحتلال في عمان. عند ظهر الثلاثاء حضر لوالده الأرجيلة، وقدم له جزرة من مزروعات المنزل، شرب برفقته وشقيقته (سبرايت) ثم استصلح تحت أنظاره أرضية الحديقة الصغيرة أمام المنزل. n قبل المغرب ساعد جدته على الوضوء، راقب أمه وهي تنهي صلاة المغرب، استمع لها بصمت وهي تبلغه أمنياتها أن يريح قلبها من القلق، ابتسم لها ولم يعقب، غادر دون أن يحدد وجهته، وحين دوت أول رصاصة لجيش الاحتلال صرخت شقيقاته بصوت واحد وفق ما روت أمه، وتقول نادت ابنتي "يما محمود يما" فقلت لها "يما هو أنا بدي أمنع قدر محمود؟!". تضاربت الأنباء حول مصير الشاب، ويروي والده أن ابنه الأصغر فارس أصيب أولا، فحمله إلى العيادة الطبية، ويقول بعد ذلك فوجئت بأن الجميع يتابعني بنظرات غريبة، بعضهم سألني عن محمود وحين وجدوا أني لا أعلم شيئا قالوا لي إن إصابته طفيفة. عند التاسعة والربع مساء وفيما كان اليأس يتوغل في قلب أمه، أطلق شهود عيان على بقية آمال أهله رصاصة الرحمة، جاء الخبر بأن محمود أصيب برصاصة في رأسه قال بعدها لرفاقه "أنا استشهدت"، لفظ الشهادتين ثم ارتقى، تاركا حبه وأحلامه تطل من نافذة سجون الاحتلال والسلطة، على شوارع الفوار التي اختنقت بحزنها والآلاف من مشيعيه إلى مثواه الأخير.