شبكة قدس الإخبارية

من قصص الألم في مجرزة الحرم الإبراهيمي

سوزان العويوي
يأتي الخامس والعشرون من شهر شباط في كل عام منذ تسعة عشر عاماً محملاً بالذكريات التي لملمت أوراقها الأليمة وأتت لتلقيها في عقول أهل الخليل خاصة وفلسطين عموما فتؤجج في القلوب الغضب والالم والحنين، وتعيد الى الاذهان تفاصيل صباح ذلك اليوم الدامي،صباح يوم الجمعة الموافق للخامس عشر من شهر رمضان للعام الهجري 1414. وهناك في الحرم الابراهيمي الشريف – كما اعتاد أهل الخليل تسميته مجازاً بالحرم – كانت الانفس تتوق للصلاة بالأخص في تلك الايام المباركة من أيام الشهر الفضيل، وكانت العديد من العائلات الخليلية بقضها وقضيضها تصلي هناك معلنة تمسكها بالمكان الطاهر وعدم السماح للمحتل الإسرائيلي المساس بقدسيته، ولكن الذي حدث كان مختلفا عن كل التوقعات. عائلة الحاج بركات عوف زاهدة - التي تسكن في بيت ملاصق مسجد القزازين في البلدة القديمة في مدينة الخليل - كانت من العائلات التي اعتاد رجالها اداء جميع الصلوات في المسجد القريب عدا يوم الجمعة وتحديدا جمعات رمضان، فلها طعم مختلف ونكهة اخرى لا تكتمل الا بالصلاة في الحرم الابراهيمي حسب تعبيرهم. أذن مؤذن الفجر للصلاة، انطلق الحاج بركات وابنيه وابنته للحرم مبكرين فتمنكوا من الجلوس في الصفوف المتقدمة أما "سفيان" الابن الثالث فوصل متأخراً، فكان نصيبه الجلوس في الصفوف الخلفية المتأخرة للمصلين، أقيمت الصلاة وبدأ الامام بقراءة الفاتحة ومن ثم بدأ بتلاوة سورة السجدة، وحينما وصل الاية التي وجب السجود فيها خرّ المصلون سجدا. وفي ظل تلك اللحظات التي علت فيها روحانيات عمت ارجاء المكان، صدر صوت مفاجئ غريب مرعب، الحاج بركات قال بانه ظنها يوم القيامة وان جاره في الصلاة اوصاه بنقود كان يحملها في جيبه، فالموقف رهيب غامض، قطع الحاج بركات صلاته كالبقية، والتفت للخلف فاذا بصهيوني حاقد عرفه من قبعته الملعونة التي تعلو راسه يمسك سلاحا رشاشا ويطلق النار بكثافة باتجاه المصلين، ولم يوقفه الا ضربه من قبل احد الشبان باسطوانة اطفاء الحريق حتى قتل هذا الحاقد قبل ان يقدم صهاينة اخرون اتوا لمساعدة المجرم " باروخ غولدشتاين " بقتل هذا الشاب، فزع الحاج من مكانه وقام مسرعا ليرى ما الخطب، فهو موظف في الاوقاف الاسلامية، فوجد نفسه يدوس دماء وجرحى وجثث، لقد ادرك الامر، انها مجزرة ، انطلق مسرعا نحو هاتف المكتب الاداري في الحرم ليتصل بسيارات الاسعاف واخبرهم ان مجزرة وقعت داخل الحرم وصلت سيارات الاسعاف اما هو فانطلق لبيته القريب كان اول ما فكر به صلاته التي لم تكتمل ، فاكملها قبل ان تطلع شمس ذلك اليوم الحزين، ثم فطن الى ان ابناءه لم يعودوا للبيت ، كان متوترا قلقا لا يعرف كيف سيتصرف ،كانت بالفعل كما قال "كانها يوم القيامة" . الحاجة " ام شريف " منعها استيقاظ ابنتها الصغيرة ذات التسعة اشهر من الذهاب مع باقي افراد للصلاة للحرم وبقيت تنتظر عودتهم ، الا انها سمعت صوت انفجار شديد ، صعدت للسطح فلم تشاهد شيئا ، الا ان شيئا غريبا قد حدث ، فام شريف لديها برميل تجمع فيه المياه لاستخدامه في اغراض التنظيف وسقاية مرزوعاتها البيتية الصغيرة وكانت بجانبه نبتة صبار زرعتها منذ فترة طويلة في اصيص، كان بين البرميل والنبتة مسافة الا انها وحينما صعدت للسطح لتتلمس الاخبار وجدت النبتتة وكانها القيت داخل البرميل ففاضت مياه البرميل على الارض .. استغرب جدا مما حدث ولكنها لم تطيل التفكير بهذا الموضوع في لحظتها فهمها الان معرفت مصدر صوت الانفجار..وتنظر عودة الجميع وخاصة ابنتها لانها تخشى عليها من اعتداءات المستوطنين .عرفت فيما بعد وكان النبتة كانت رسالة لها امتزج فيها الصبر مع الدموع . منال ابنة الحاج بركات التي كانت تصلي في مصلى النساء سمعت اصوات الرصاص والانفجارات كما سمعها الجميع خرجت من المصلى وهي لا تعرف الى اين تذهب فالطريق مظلمة موحشة ومليئة بالمستوطنين الصهاينة الذين قاموا خلال ساعات الليل بالاعتداء على بعض الفلسطينيين في البلدة القديمة واستحلفوا بان ينتقموا منهم في الصباح ، لم تكن تدرك مدى انتقامهم ولكنها خافت التقدم اكثر فقررت التوجه الى بيت صديقتها الاقرب للحرم من بيتها وهناك استقر بها المقام .حتى استطاعت والدتها فيما بعد القدوم واصطحابها للمنزل بعدما اوقفها الجنود الإسرائيليون عدة مرات واولوا منعها الا انها اصرت على اعادة ابنتها معها، عادت ام شريف وابنها للبيت ولكنها لم تكن تعر فماذا اخفت لها الاقدار بعد. اما شريف ابن الحاج بركات الاكبر فلقد كان في الصفوف المتقدمة للمصلين، وبعد حدوث المجزرة قام مسرعا وبدا بنقل الجرحى والشهداء، حيث نقل اكثر من 17 شخصا مصابا ليكتشف بعدها بانه مصاب برصاصة تحت ابطه كادت تصل للقلب، وانقذ في اللحظات الاخيرة بعدما نقل للمشفى وادخل مباشرة لغرفة العمليات، تم تخديره الا انه استفاق خلال اجراء العملية الجراحية مرتين وكان يسال عن اخيه سفيان ... سفيان ... فعلا اين سفيان ؟! وصفت " سوزان " ابنة الحاج بركات الكبرى ذلك الصبح فقالت : اخبروني انني يجب ان اذهب لبيت والدي لان اخي اصيب ، ذهبت مسرعة ودخلت المنزل لارى جثة مغطاة بغطاء اببض تتوسط غرفة الجلوس وحولها اجتمع الاهل ، صدمت فعرفت وقتها ان اخي قد استشهد فاغمي علي ، استفقت بعدها وبدات احاول تجميع شتات فكري واحاول ان استجمع كل قوتي لاستوعب الامر ، فكان لا بد من التصديق بان سفيان قد استشهد ، وتضيف شقيقته " عندما افقت من اغماءتي ونظرت اليه، كان جبينه يتصبب عرقا وكانت خالتي بجانبه تمسح جبينه بن الفينة والاخرى ، كان مسجا على الارض مبتسما تكاد تشك في انه قد فارق الحياة . وتكمل سوزان حديثها بنبرة اتضحت فيها معالم الفخر والحنين ، فتقول : "كان عمر سفيان 24 عاماً، شاب سبق جميع اقرانه في العمل والتفكير، لقد كان تاجرا حذقا يعمل في التجارة الموسمية، كما كان يعد للزواج والعمرة، ولكن حور العين كانت اليه اقرب من حور الطين. كان متميزاً، حنونا جدا تظهر عليه السكينة والطمانينة، حليما، قلما يغضب، كان يستمع الي في مشاكلي ودائما اجد عنده اذنا صاغية وحلا لجميع مشكلاتي". وتضيف سوزان: " كان بارا بوالدي لدرجة تكاد لا تصفها كلمات، وكان يتقن تجويد القران الكريم وحصل على شهادة تثبت ذلك، كما انه وبعد ان انهى الثانوية العامة حاول الالتحاق بجامعة قطر الا ان والدي رفض، فلقد كان يستوحش لغيابه، فلم يكن يعلم والدي ان غيابه الابدي القسري سيكون قريبا". لم تكن مصيبة سوزان الوحيدة فقد اخيها، فهي كانت حامل في شهرها السابع ، ومن هول الخبر توفيت ابنتها في احشائها وولدت ميتة، ابنتها هذه تجربة حمل لم تتكرر بعدها فحرمتها جريمة الاحتلال من شقيقها ومن الامومة في نفس الوقت. لقد استشهد سفيان بالاضافة الى 29 شهيدا في فجر الخامس والعشرين من شهر شباط للعام 1994 في جريمة نكراء اعد لها المستوطنون جبداً، حيث استطاعوا بعدها سرقة الحرم الابراهيمي وترك مساحة صغيرة للمسلمين للصلاة فيها ، كما جرى على اثر تلك المجزرة اغلاق شارع الشهداء احد اهم شوارع المدينة وعصبها الذي يربط شقي المدينة الشمالي والجنوبي ببعضهما وما زال الاغلاق مستمرا حتى اللحظة، مازال الاغلاق مستمرا ... وما زال القتل مستمرا .. ولا زالت الاذان صماء لا تسمع لأنات الحنين التي تطلقها قلوب اهالي الشهداء ، ولا لأنات المعاناة التي يتكبدها سكان المدينة جراء اغلاق الحرم والشارع.