شبكة قدس الإخبارية

جيل ثلاثة ونصف

هيئة التحرير

فاطمة عاصلة*

بعد قليل سأنزل من الحافلة، وسأنسى ضحكته المشرقة. عما قليل سيستقل هو أخرى، واحدة مدججة أكبر حجمًا وأقوى صخباً، واحدة مما ظنوا انها "لا تهزم"، سيركب أخرى ويشهد ضحكة وجه أكثر سمرة بكثير، وعيون أكثر بريقا، في غزة أو لبنان وربما في سوريا أو مصر، إنْ جُنَّت بنا الثورة. ومن يدري؟ ربما يقف قاطعا كشوك الحدود لضحكة ابني أنا، إن اشتدت مساحات وسقطت بعض مسميات "هنا" أو "هناك", ما تعريف المساحة اصلا؟

سأنسى أيضا كيف كنت أراقب فضوله الطفولي، ودهشة عينيه الزرقاوتين، لكن لن أنسى أنُي كنت أفكر – لتوي - في التعايش السلمي والمطرقة والسندان والاف العرب المغلفة هنا في علبة مربعة أو دائرية الشكل.

والدته أيضا-ذاتها التي ستشتم الدولة لطول غيابه، أو تفخر بمقابلة إعلامية لبطولته. عما قليل حين يُعتبر "رجلا"- مؤكد كانت تفكر في الامكانية ذاتها، مجردة من الأشكال والزوايا، الإمكانية السلمية ذاتها (تقريبا) هل هذا احتمال قابل للتحقيق إذا؟

ذنبه أنه ولد هنا. وذنبي أنّي كنت قد ولدت هنا

ذنبه أنه قد يبقى هنا. وذنبي أني سوف أبقى هنا.

                                      ***

تصعد في السبعين الى الحافلة، أحمر الشفاه يبرز ما كان من شفتين. لماذا تحمل "السوبرماركت" في أكياس؟ يرتجف عقلي ككل مرة تستدعي الانسانية ذلك، أفكر في العمر المار سريعا، وبطيئا أفرغ مقعدي وابتسم لـ "تودا".

 قدماي تلوحان يمينا وشمالا إلى أن القى المستقر، أعود لأرقبها؛ تنورة قصيرة تظهر ركبة جافة، أقدام هرمة، وثدي نضج وتدلى منذ سنين. أفكر بجداتي التسعينيات في الحارة، أحن الى المجلات الملونة من المرحلة الابتدائية، وأحن تحديدا إلى الصفحة المقسمة إلى صورتين متشابهتين إلا ببعض فروق.

استحضر جداتي التسعينيات في الحارة ليس لأي وجه شبه يذكر. أي شبه.

يا أرض التناقضات الصغيرة!

                                     ***

أدخل إلى المجمع التجاري، يبدو عليّ التعب، اضع حقيبتي على الطاولة كأني القي بكل جحافة اليوم أو أنزل بعض ثقله على طاولة، يتغاضى عن تفتيشي، يبتسم:

-         "خلص فوتي." ابتسم له وأمضي.

-         أنظر خلفي:  "لكن لماذا يتبّع أمن الدولة؟!"

يا أرض التناقضات الصغيرة!

                                ****

أدخل إلى قاعة المحاضرات الصغيرة في اخر اليوم، قلة منا وصلت، من يكترث أصلا لمحاضرات آخر اليوم، أول الليل؟! نطرح التحيات، نسأل بعضنا بعضا عن كيفية قضاء النهار، نشكو ثقل الدراسة وصعوبة المادة، نتذمر من طول اليوم. نبتسم...نضحك معا، ينشغل كل منا بسفر نظره لثواني، فرصة لافتتاح نافذة للحوار بينها وبينه:

هي: "وأنا أيضا قدمت من هناك كثير من الأمور لنتشاركها اذا." (تمام كفرحة قروي مغترب لقي ابن الجيران في شوارع باريس في شهر عسله.)

  هو:   "نعم نحن أتينا منذ زمن، أنا من الجيل التاسع هنا."

  هي: "أما انا فجدي هو الذي قدم الى هنا."

هو: "اووه ات دور شليشي كان؟"

أعلق ذهولي الصامت لأسخر "جيل ثالث؟ شو هواتف ذكية عنّا، طيب في ثلاثة ونصف؟"

يعاود الالتفات إلي، أخرس صمتي، يبتسم لي، أبتسم، نعود للحديث...عن المواد التعليمية "معا".

لا شيئ يعكر صفو مزاجنا؛ كل شيئ على ما يرام، أبدا، لا شيئ يعكر صفو مزاجنا ولا انساجمنا المطلق، إلى أن يأتي ما يعكر صفو مزاجنا حقا...شيئ...أي شيئ...ويطلق العنان المطلق لـ:

ا ن س ج ا م ن ا  المطلَّقْ.

يا أرض التناقضات الصغيرة!

                                  ***

أقبل الليل، وحدي أمشط الأفق على مقعد يطل على شساعة الكون، والهوة في الحيز الشخصي، أفكر بك...بنا...كثيرا من الاكتظاظ، أدري أن هذا عارض سريع الانقضاء، وسينتهي بأول رنة هاتف، أشرب الـ "هافوخ" ولا أفكر في شيئ، (هل تصدقني حين اقول اني لا افكر في شيئ؟ ) أصغي للحن المنساب قريبا، ربما هي أغنية إنجليزية من السبعينيات، لحن طويل، اه شجن...شجن...تدغدغني الالحان...تأتي الكلمات...بالعبرية؟...بي شوق لاسع، ستنهار دموعي الآن.. شجن...بالعبرية...شجن.

هل هي أغنية خلقت اللحظة من وحي وحدتي...أمضي..

"حينما اغزو النت بعد ساعات أكون قد حفظت الأغنية...لكن هل أعيد تشغيلها :بالعبرية؟"

يا أرض اللغات الصعبة، وسهولة المضي اللانهائي نحو اشتراك ما!

                                            ***

هل هو عصبي وعابس دائما مع جميع رواد المطعم، أم بسبب أني ...؟ سأنال منه الآن.

أراقب كيف يستقبل الوافدين بعدي في الدور، نعم إنه عصبي...لا أقل عبوسا معه...لا لا إنه عصبي جدا هذا اليوم، بخلاف زميله، مع الجميع...الجميع.

كل شيئ على ما يرام.

                                      ***

لا عطلا في دوران الارض حول نفسها، لكن شمسا تبدو اقل خفة حينما يدور الكون حولها باتجاهين متقاطبين، لا صوت لانكسار السطح حين يفزُّ عطبا مفاجئا فبه، ولا عهر يبدو في خط الأفق، المتفق عليه سرا (بيننا).

يا أرض العمق الخفي والبعد الرابع في قانون الطبيعة، لا حجم للتناقضات.

يا أرض التناقضات العجيبة، لا من تناقضات صغيرة.

 *كاتبة من الجليل