شبكة قدس الإخبارية

الرياضة ما بين نموذجين

عنان حمد الله

في مقابلة أجراها مايك فريمان -كاتب العمود الرياضي لصحيفة النيوورك تايمز في ابريل 2002- مع كوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي في إدارة بوش الابن، تحدّثت فيها عن وظيفة الأحلام التي تتمنى فيما لو تركت الجهاز الحكومي، كانت إجابتها: مفوّضة (رئيسة) الرابطة الوطنية لكرة القدم الأمريكية.

 سيكون هذا الطموح مفاجئا لمن ينظر إلى رايس "الأنثى"، مع إزاحة في المشهد عن كونها مسؤولة عن إراقة دماء مئات ألوف وملايين البشر بحكم وظيفتها؛ كمشجعة ومتابعة لكرة القدم الأمريكية التي أشبعتها مدارس العلوم الاجتماعية والإنسانية-الجندرية والحركات النسوية نقدا بسبب تغذيتها "للعنف الذكوري".

 ولكنه لن يكون كذلك لمن التزم بفقه أولويات الوجود الأمريكي-الإمبراطوري في العالم، فشغف رايس بكرة القدم الأمريكية وفقا للمقابلة نابع من دراستها لتاريخ الحروب، وخصوصا فيما يتعلّق بنقطتين أساسيتين تتشاركها هذه الرياضة والحروب في نظرها: استخدام الاستراتيجيا وهدف السيطرة على الأرض والمناطق.

لاحقا، تلقّف تلك الفكرة مجموعة من الكتّاب والباحثين-العسكريين وأخذوا يخطّون الدراسة تلو الأخرى لتطوير الاستراتيجيا العسكرية الأمريكية بل وتطبيقاتها الميدانية، عاقدين المقارنات والمقاربات ما بين كرة القدم الأمريكية وكرة القدم من جهة والحقل العسكري من جهة أخرى. ودون الخوض في التفصيلات، وجد بعض الباحثين أن تاريخ كرة القدم الأمريكية كان يتطور في بعض المراحل بالتوازي، وفي مراحل اخرى بالتقاطع مع تطور المؤسسة العسكرية الأمريكية والعكس صحيح، ولا يقف ذلك عند حدّ التسميات التي اقتبستها المؤسسة العسكرية الأمريكية في عملياتها العسكرية من تلك الرياضة، مثل تكتيك "Hail Mary" في حرب الخليج الأولى، وعملية "الظهير" في فيتنام.

 الرياضة و"الأمة"

تجاوز شغف رايس بكرة القدم الأمريكية عقد المقارنات بينها وتاريخ الحروب، إلى اعتبارها إياها "مؤسسة قومية" ذات أهمية كبيرة، تتربع على عرش الهوايات القومية الأمريكية في مواجهة البيسبول. مردّ ذلك بحسب العديد من الدراسات، إلى أن كرة القدم الأمريكية ترتبط عميقا بعمليات تشكيل وإرساء قيم ومعايير السلوك الثقافة الشعبية الأمريكية، باعتبارها أيضا رياضة للمشاهدة العائلية من كافة الأجيال والتي تُخلق حولها الطقوس الاجتماعية داخل الملاعب وخارجها، وأحد آليات إعادة إنتاج الهوية القومية الأمريكية ومُثلها العليا بشكل مستمر، بالرغم من اتخاذها أسلوبا يُخفي ارتباطها بالسياسة، وتصويرها على أنها منزوعة السياسة والتاريخ.

 ولعلّ أبرز ما تساهم به هذه الرياضة في سياق التكوين الاجتماعي-الثقافي-النفسي الأمريكي، عملها بصورة مستمرة في رفد/إنتاج الخصال التي تتطلبها المؤسسة العسكرية، من الرجولة والتضحية والشجاعة، العمل الجماعي، والقوة واللياقة البدنيتين. إلى جانب استحضارها وتحفيزها الدائم لمشاعر العنف والروح القتالية (بشكل تفاعلي للمشاهد) على المستوى الشعبي للحيلولة دون ركونه إلى حالة من الاستسلام النفسي.

 كما تلعب دورا في الحفاظ على استمرارية توليد وتعزيز منظومة وفكرة البطولة والبطل في السياق الشعبي وكرافد وداعم للمؤسسة العسكرية التي تقوم بذلك بدورها، باعتباره أمرا ضروريا على اختلاف المجتمعات وصيغها المتعددة. ففكرة البطولة نابعة من القدرة والاستعداد على التضحية في سبيل مُثل وقضايا عليا للحفاظ على الأمة-الشعب، تدفع بالإنسان إلى التخلي عن أغلى ما يملك، حياته.

 وفي المجتمع الصهيوني، تلعب رياضة "كراف ماغا" ذات التأثير في التكوين الاجتماعي-الثقافي-النفسي، وهي مزيج من العديد من تكنيكات فنون القتال، ومستمدة في الأساس من قتال الشوارع، أنشأها أحد السلوفينيين الصهاينة بغرض تدريب الجاليات اليهودية في أوروبا للدفاع عن نفسها أمام تصاعد حملات استهدافهم في حينه، وبعيد انتقاله إلى فلسطين المحتلة في الاربعينيات من القرن المنصرم بدأ بتدريب العصابات الصهيونية (نواة الجيش الصهيوني) عليها.

 وأصبحت لاحقا رياضة وطنية صهيونية متاحة للجميع، إلى جانب اعتبارها أساسا تدريبيا للمؤسسة العسكرية الصهيونية بجنودها وقواتها الخاصة، والموساد والشين بيت والشرطة الصهيونية. وتقوم فلسفتها على القضاء على كافة التهديدات من خلال المناورات الهجومية والدفاعية في آن واحد، وتنمية الروح العدوانية، فالمسألة مسألة حياة أو موت، شعارها "لا رحمة، لا قواعد".

سلطة أوسلو: الرياضة وفلسفة الخنوع

لا يقتصر دور الرياضة عموما وكرة القدم خصوصا ضمن مشروع أوسلو في عمليات "التطبيع" وبعقد المباريات المشتركة بين فرق فلسطينية وأخرى صهيونية، بل هي عملية استيعاب ممنهجة للشباب الفلسطيني والمهتمين بالشأن الرياضي، ومحاولات تجيير الرياضة لإعادة تحديد الأولويات بتغييب القضايا الجوهرية التي تجعل الكيان الصهيوني ومن ورائه سلطة أوسلو في خطر دائم.

 فرئيس جهاز الأمن الوقائي ومستشار "الأمن القومي" لمحمود عباس سابقا، جبريل الرجوب، الذي يترأس حاليا الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم واللجنة الاولمبية الفلسطينية، قد أعلن وبدون مواربة الفلسفة التي جعلت من سلطة أوسلو تهتم بالرياضة، وذلك وفي مقابلة أجراها على القناة الخامسة الصهيونية، قائلا:"الرياضة الفلسطينية هي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية...وعماد أساسي لتحقيق مشروع الدولة الفلسطينية...وأن يرانا العالم بعيون رياضية..مين أحسن يشوفونا العالم ملثمين ولا يشوفونا بشورتات...أعتقد بأنه هذا شيء مهم، الرياضة في فلسطين مش لإنجاز رياضي، الرياضة في فلسطين لتحقيق انجاز سياسي مزدوج، الثقافة والتربية في المجتمع يكون فيها روح رياضية...".

 وربما التساؤل حول الثقافة والتربية المتعلّقة ب "الروح الرياضية" التي يتم ترسيخها: لمن موجّهة وماذا تستهدف ولأي غرض؟ سيلقى إجابته في "مين احسن يشوفنا العالم ملثمين ولا يشوفونا بشورتات".

 "الألتراس" والانتفاضة الأولى

تقول مقدّمة أغنية أنتجتها إحدى روابط مشجعي كرة القدم المصرية (الالتراس):

الكورة لما جينا كانت كدب وكانت خداع

كانت مغيبة للعقول كانت للسلطة قناع

بيحاولوا يجمّلوها وتبقى همّ للبلاد

ويعُتبر الألتراس وهو "الكيان العابر للايديولوجيا" بالمعنى التقليدي، أحد أركان النسيج الوطني المصري للعبه دورا مهما في ثورة 25 يناير المصرية، عانى أعضاؤه على مدار أعوام سبقت الثورة من الملاحقة والاعتقال والتضييق (مما اضطرهم إلى تشكيل قنوات اتصال سرية للتنسيق في مرحلة من المراحل)، لما شكّله من حالة أرق لكافة أجهزة الأمن المصرية بسبب قدرته التنظيمية التي تجاوزت قدرة الكثير من الأحزاب، وروح الحماسة والالتزام والتناغم التي تمتّع بها أعضاؤه، والتي إن خرجت من حيّز الرياضة إلى حيّز السياسة لشكّلت تهديدا حقيقيا في نظر الأجهزة الأمنية.

[caption id="attachment_35956" align="aligncenter" width="446"]إحدى مظاهرات الالتراس المصري أمام محافظة الجيزة العام الماضي إحدى مظاهرات الالتراس المصري أمام محافظة الجيزة العام الماضي[/caption]

 وهذا ما حصل بالفعل، بمشاركة العديد من الروابط في ثورة 25 يناير (دون التطرّق إلى دورهم في عملية التعبئة ما قبل الثورة)، ودورها في الحشد والتنظيم، وتمرّسها في مواجهة الأجهزة الأمنية بأساليب الكرّ والفر لتشتيت حشودهم تارة، وتارة أخرى بتشكيلها لجان حماية وتأمين لمداخل ميدان التحرير، وإذكاء روح الحماسة بين الجماهير بالهتافات، وهذا إلى حد ما يشبه الشكل والعمل التنظيميين في الانتفاضة الأولى على ضوء اللجان الشعبية التي تشكّلت في وقتها للقيام بالعديد من المهام الوطنية.

 ولطبيعة الحالة الأمنية المركبة فلسطينيا في الضفة الغربية والقدس، والأراضي المحتلة لعام 1948، ولاختلاف مضامين وأشكال العمل والقضايا التي تجعل من فكرة إعادة الاعتبار للعمل التنظيمي الواسع أو بصورته التقليدية في ظل هذه الظروف أمرا يتحتّم إعادة النظر فيه ضمن المتغيّرات الحاصلة، تطرح كرة القدم نموذجا آخر للعمل التنظيمي في إطار حروب الاستنزاف الشعبية ضد الاستعمار دون الوقوع في فخ أشكال "التنظيم الليبرالية"-والمابعد حداثية.

 الانتفاضة vs كرة القدم

ما نحتاجه حقيقة، هو محاولة الخروج من تقديم نماذج للاستنساخ النمطي كما هي كلاشيهات السياسة الواقعية الرثّة عن التفوق التكنولوجي والحضاري الغربي "الذي يلعب دورا فيما أطلق عليه "اختلال موازين القوى" وادعاء التأثير على تحديد مسارات الهزيمة والنصر، فلا حاجة لنا مثلا إلى إسقاط الطائرات إذا ما تمكنّت المقاومة من الوصول إلى جنود وضباط سلاح الطيران الصهيوني على الأرض.

 كما نحتاج التأكيد على الفكرة العابرة للايدولوجيا والقائلة بضرورة استعادة "عسكرة المجتمع" برغم الحمولة السلبية التي ارتبطت بها نتيجة تجارب سابقة خضناها، لكونها الأجدى في حالات التحرر الوطني باختلاف نماذج الحروب الشعبية. فالمقاومة في غزة استطاعت بلورة نموذج "فتوة" المدرسي، إلى جانب العديد من المخيمات التدريبية للفصائل المختلفة.

ولكن ما شهدته الضفة الغربية في أعوام ما بعد أوسلو التي سبقت الانتفاضة الثانية، من محاولات عملية لتقليم أظافر المقاومة من قبل السلطة الفلسطينية لصالح مشروعها السياسي ضمن متطلبات "عملية السلام" وتحت ادعاء بداية الانتقال لمشروع الدولة والترويج له كامتداد لمشروع التحرر الوطني لا نقيضه، ومحاربة التنظيمات الفلسطينية التي كانت تبادر لإفشال محاولات التركيع التي مثّلها مشروع أوسلو باتهامات تصل إلى حد التآمر على القضية الفلسطينية، إلى جانب عمليات الجيش الصهيوني المستمرة؛ لم تمكّن الفصائل الفلسطينية المختلفة بما فيها فتح من إعداد العدّة والاستعداد المطلوبين لحدث مفصلي كالانتفاضة الثانية.

 فكانت الانتفاضة نقطة تحول في نمط المقاومة من الاستنزاف طويل المدى الذي بدأت بذوره بالنمو خلال الفترة المذكورة سابقا، إلى حدث امتدّ لأعوام ومن ثم انطفأ، سالبا منا ذخيرة بشرية ومادية كان من الممكن لها أن تكون بحق حرب استنزاف شعبية مفتوحة طويلة الأمد، ضمن استبدال معادلة الكثافة لصالح معادلة الخط الزمني والعمل النوعي، فانهيار الكيان يعتمد على قدرة المقاومة على الاستنزاف المستمرّ إلى الحد الذي يمكن أن تشكّل فيه الثورة إطاحة كاملة فيه (تجاوزا لنقاش موقع المقاومة الفلسطينية أكانت رأس حربة للمجهود العربي والإسلامي أم لا).

 وكان من أبرز أسباب هذا التحول أيضا، ارتباط العمل العسكري بالحلول السياسية بشكل عام وحلول السلطة بشكل خاص، ضمن المنطق الذي يقول ما هو عسكري في خدمة السياسي، في حين أثبتت كثير من التجارب التاريخية في مواجهة الاستعمار انه ما لم يخدم العمل العسكري الراهن العمل العسكري المستقبلي بتوسّط السياسة عند الحاجة، إلى حين تحقّق التحرير (الهدف)، سيجعلنا ذلك ندور في حلقات مُفرغة.

 في المقابل، أبرزت الانتفاضة صلابة الحاضنة الشعبية للمقاومة رغم كل الممارسات السلبية، وهذا ما تنبّه إليه "المجتمع الدولي" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها "اسرائيل"، فشرع في عمليات "تجفيف منابع الإرهاب" و"مكافحة التمرّد" بمساعدة السلطة الفلسطينية التي استهدفت المجتمع كحاضنة للمقاومة والتنظيمات رأس حربتها على حدّ سواء، إلى الحد الذي أصبح فيه آذان المسجد في نطاق المستعمرات الصهيونية عملا "إرهابيا" يحتاج "للتجفيف".

 لا شكّ أن هذه العمليات نجحت إلى حدّ ما في أهدافها، ولكن أثبتت الأحداث المتلاحقة اللاحقة التي صنّفت في خانة "عمليات المقاومة الفردية" أنها لم تنجح بالمطلق، فما كان عملا فرديا في معظمه اتضح انه عمل تنظيمي، وفردية بعض العمليات لا يقلّل من شأنها ولا قيمتها، ولعلّ الخلايا التي يُعلن عن اعتقالها من قبل السلطة أم الجيش الصهيوني أكبر دليل.

 ولزاما على الفصائل ان تتخذ قرارها الحاسم بالانتقال "تحت الأرض" بشكل كامل للعمل وتفعيل جهود كوادرها، وعدم التعويل على التسويات السياسية والوقوف على ما هو ممكن ومتاح، ومتجاوزين حالة انتظار الحاضنة الشعبية لتتشكّل، والانتفاضة الثالثة لتندلع، والظروف الإقليمية والدولية لتتبلور، فالمبادرة سيّدة الموقف في ظرف يحتاج لضخ مضاد لمشاريع التسوية ومنطقها وتجلياتها التي طالت الحياة اليومية من جهة، وإعادة ترميم وبناء الحاضنة من جهة أخرى.

 وفي الوقت الذي تتجه فيه المؤسسات العسكرية والأمنية الصهيونية إلى تكثيف عملها الاستخباراتي الاستباقي بشكل غير مسبوق، تقتضي الحاجة إلى البحث عن نماذج عملياتية قادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة. وربما تشكّل كرة القدم بفلسفتها مخرجا.

 فكُرة القدم بحسب إحدى المقالات، تشبه إلى حد كبير النموذج الذي طرحه الجنرال الصيني سن وو في الحرب، من حيث إرباك العدو بخلق حالات من الشك واللايقين لديه بشكل دائم. نموذج لفتح آفاق لأهداف إستراتيجية، يميل إلى اللامركزية في القيادة والتنفيذ كما كرة القدم، يتجنب لاعبيها التمركز في المواقع (الحركة المستمرة)، فكل لاعب في الفريق على وعي بدوره وبالهدف من "اللعبة"، ويستطيع 3-5 لاعبين بمجرد إنهائهم "التدريبات" السابقة والمطلوبة، وفي عملية تنسيق أن يقوموا بتمريرات مفاجئة وغير متوقعة. وهذا يتطلّب التمويه والدقة والصبر والارتجال المرتبط بالإبداع، وليس الهجوم المباشر المرتبط بقوة النيران (كما الجيوش النظامية وشبه النظامية).

 هذا التوجّه في إعادة الهيكلة، سبق وأن خاضه الجيش الجمهوري الايرلندي في ظروف مشابهة إلى حد ما، باعتماده "منظومة الخلايا" للتقليل من الخسائر من جهة، وزيادة الفاعلية العملياتية والفاعلية الدفاعية اتجاه العمل الاستخباراتي المضاد والمعادي من جهة أخرى. فما بين تشكيله وحدة الأمن الداخلي، إلى استنبات المناعة النفسية اللازمة لدى المتطوعين اتجاه أساليب التحقيق فيما لو انكشفت الخلية، وإعادة الهيكلة، استطاع الجيش الجمهوري الايرلندي أن يقف على أقدامه مرة أخرى في حينه.