شبكة قدس الإخبارية

تجنيس يهود الأندلس وازدواجية المعايير

منى حوا
عند طرح المسألة الأندلسية والعودة إلى الأندلس يتعامل الكثير بحذر شديد، معتبرين أن الحديث عن عودة الأندلسيين لبلادهم يشبه كثيراً إدعاء اليهود فيما يسمونه العودة إلى "إسرائيل". بيد أن المسألة هي الحالة الشبيهة للظلم الفلسطيني من واقعه، لا النقيض المؤسف. النكبة الأندلسية – إن صحّ التعبير، أخذت مراحل طويلة تاريخياً وصولاً للاجتثاث الكبير في قرار الطرد العنصري للموريسكين الأندلسيين من بلادهم عام 1609والذي أحال مئات الآلاف منهم للطرد واللجوء إلى مناطق عدة أهمها الشمال المغاربي. هذا الطرد لم يكن الأول، حيث صدر بحق يهود الأندلس "السفارديم" قرار طرد مسبق عند سقوط الأندلس مباشرة عام 1492. هذا الطرد لم يكن على أساس عرقي كما يعتقد بعض المروجين بسذاجة، وذلك إنطلاقاً من قاعدة أن العرب احتلوا الأرض والأرض عادت لأهلها، بل كان طرداً عنصرياً فاشياً على أساس أيدولوجي، وإن كان طرح مصطلح "أهل الأرض" في القرن الخامس عشر شيء مثير للفكاهة وغير عقلاني أبداً. عموماً، لست هنا بصدد الحديث عن ذلك، فالانطباع السائد لدي جمهور عريض - من العرب المشارقة خاصة - بأن الأندلسيين كانوا مستعمرين في شبه جزيرة أيبيريا وآل وجودهم إلى الزوال، لا يعكس جهلاً بتاريخ الأندلس فحسب بل يعكس جهلاً عميقاً بالتاريخ العالميّ عامة وتاريخ أوروبا خاصة. اليوم وبعد مضي أكثر من خمسة قرون لطرد اليهود السفارديم من الأندلس، وفي إجراء فاضح، أعلنت وزارة "العدل" الإسبانية في نوفمبر المنصرم أن حكومة مدريد قررت منح حق الحصول على الجنسية الإسبانية لأحفاد اليهود الذين طردوا من البلاد عام 1492. وبشكل تراجيدي صرح وزير العدل ألبرتو رويز غالاردون "إنه إجراء يرمي للمّ الشمل مع المواطنين السفارديم في الشتات"! وبموجبه، سيعتبر كل السفارديم مرشحين للحصول على الجنسية بغض النظر عن مكان إقامتهم، حتى لو كانت بإسرائيل أو بأميركا، وحتى لو كان هذا السفاردي رئيس دولة أو عضو بالكونجرس الأميركي! وكل ما على اللاجئين الأندلسيين اليهود للحصول على جنسيتهم، فقط إثبات علاقة موضوعية بإسبانيا سواء بالاسم أو اللغة أو النسب المباشر. [caption id="attachment_3490" align="aligncenter" width="333"]صورة من إحتفال المصالحة الذي أقيم في الذكرى المئوية الخامسة لسقوط غرناطة في 2 يناير 1992م، حيث قدمت اسبانيا على لسان ملكها خوان كارلوس الأول اعتذاراً رسمياً لـ “إسرائيل” عن طرد يهود الأندلس السفاراد من بلادهم إسبانيا و اعترافا بكونهم جزء لا يتجزأ من الهوية الإسبانية الديموقراطية. و قد تمت المراسيم حينها في حفل أقيم بغرناطة حضره الملك بنفسه و رئيس ”إسرائيل“ آنذاك خاييم هيرزوغ مع مختلف الأطياف الدينية و الثقافية الكاثوليكية و اليهودية. صورة من إحتفال المصالحة الذي أقيم في الذكرى المئوية الخامسة لسقوط غرناطة في 2 يناير 1992م، حيث قدمت اسبانيا على لسان ملكها خوان كارلوس الأول اعتذاراً رسمياً لـ “إسرائيل” عن طرد يهود الأندلس السفاراد من بلادهم إسبانيا و اعترافا بكونهم جزء لا يتجزأ من الهوية الإسبانية الديموقراطية. و قد تمت المراسيم حينها في حفل أقيم بغرناطة حضره الملك بنفسه و رئيس ”إسرائيل“ آنذاك خاييم هيرزوغ مع مختلف الأطياف الدينية و الثقافية الكاثوليكية و اليهودية.[/caption] يخضع الاعتذار والتجنيس لليهود الأندلسيين لعدة أمور، فاسبانيا الغارقة بالديون المثقلة بالحاجة تفتح الملفّ مجدداً بعد اعتذارها الصريح عام 1992 لأسباب لا يمكن تجاوزها. إذ تتوخي من ذلك جلب مواطنين قادرين على الاستثمار والإنتاج، فالوزن السياسي والاقتصادي ليهود الأندلس والذي يضرب لهم ألف حساب دولياً ليس أمراً ثانوياً، بالإضافة لقلة أعدادهم مقارنة بمسلمي الأندلس في الشتات فقد تجاوزت أعدادهم الثلاثة ملايين والضعف الأكثر في المغرب وحده ناهيك عن بقية الأعداد المهولة. كما يجب الإشارة لمسألة هامة وهي العجز أمام تحديد الموريسكين وإحصائهم، وهذا لا ينفي أيضاً حجم تأثير اليمين المتطرف الاسباني والذي له ثقل كبير جداً في الدولة كما للكثير من اللوبيهات المتطرّفة التي ترفض التجنيس من منطلق العداء الديني. ومع كل هذه الأسباب، فليس من المقبول أبداً إستمرارية الظلم مع رفض تقديم إعتذار واضح وصريح من الدولة الإسبانية والفاتيكان أيضاً عن الإبادة التي مورست بحقّ الأندلسيين بين طرد وتعذيب دموي، الإعتذار عن أطول إبادة عنصرية عرفها التاريخ بحقّ الأندلسين هو مسألة ملحّة وإن كانت صعبة لما يمثلّه الإعتذار من موقف سياسي عميق حول نزاع لازال قائماً باعتبارهم بين الشرق والغرب. وعموماً كل الأسباب التحليلية لرفض ردّ الإعتبار للموريسكين المسلمين، هي أسباب غير مبررة عرفاً بل فاضحة لإزدواجية المعايير التي يغرق بها المجتمع التنويري العادل في أوروبا والعالم اجمع. أعداد المسلمين الأندلسيين المطرودين من بلادهم أضعاف أضعاف أعداد اليهود السفارديم وهذه حقيقة، فهل تكترث حكومة إسبانيا الحنون لرأب صدعهم التاريخي ولمّ شملهم بوطنهم السليب كما صرّح وزير العدل؟ وهل تكترث الحكومة الإسبانية بحقّهم أمام ظلم العنصرية المستمرة منذ قرون حتى هذا اليوم والمتمثلّ بعدم ذكرهم في أي تشريع للدولة الإسبانية بكل إزدواجية معايير مؤسفة؟ الإنتصار لليهود الأندلسيين وردّ حقوقهم هو حقّ مشروع تكفله شرائع السماء والإنسانية، لكن الظلم الذي وقع على اليهود الذين فقدوا عزّهم بعد سقوط مظلّة حكم المسلمين في الأندلس لم يكن أقلّ أبداً من الظلم الذي وقع على من حضنهم من مسلمي الأندلس والذين أبيدوا وطردوا وعانوا الأمريين لنفس الدوافع القمعية التي أفضت إلى الشتات. ما الهدف من تجنيس اليهود الأندلسيين والإعتذار لهم والإعتراف بحقوقهم ككل الأسبان اللاتنينيين والفلبينيين والأميريكيين، في حين يستمر تجاهل الظلم الأكبر على المسلمين الأندلسيين؟ في مثل هذا النهج مغالطة تاريخية لا تخدم في النهاية غرضها الآني بل تردّه إلى مآله الإسقاطي البعيد عن الحقيقة لأن تاريخ الأندلس أساساً هو تاريخ الأندلسيين ككل، تاريخ مجتمع، تاريخ هوية، تاريخ حضارة، وليس تاريخ الأقليّات التي عاشت في الأندلس! كما لا يمكن أن يكون في أي حال من الأحوال إعتبار إحراق أكثر من 33 ألف أندلسيّ مُسلم هامشاً في سجلات محاكم التحقيق الإٍسبانية فيما عدد اليهود الذين راحوا ضحايا تلك المحاكم ألفين فقط! تجاهل حكومة إسبانيا الوقح لحقوق المسلمين الأندلسيين المطرودين من بلادهم في حين تردّ حقوق السفارديم اليهود، يعكس بشكل صارخ ومباشر طريقة التعامل الدوليّ مع القضايا بمصلحيّة دون إنتصار للعدل. كما يعكس جوراً كبيراً في إزدواجية المعايير، ليس في المسألة الأندلسية فحسب بل في كل القضايا الإنسانية وأولها فلسطين، وغرناطتنا هي الوجه الآخر لكل نكباتنا، غرناطاتنا هي فلسطين.