شبكة قدس الإخبارية

قناص وادي الحرميّة ببندقية العجائز

ايمان خليفة

تلح علينا الآن العديد من القضايا المهمة على الصعيد الوطني الفلسطيني، لعل من أبرزها قضيتا النقب والأسرى، ولأن المنطق يحتم علينا العودة إلى أسباب مشاكلنا لحلها، وعلاج الأورام يتطلب استئصالها وليس تناول المسكنات، فإننا بحاجة لحلول جذرية لايمكن الحصول عليها من خلال مفاوضات عبثية تستنسخ تجارب فشل استمرت لعقود، فمن الغباء تكرار الشيء نفسه وتوقع الحصول على نتائج مختلفة. ومهما تعددت الطرق يبقى الطريق لفلسطين واحدًا، لابد أن يمرّ من فوهة بندقية.

وعند الحديث عن البندقية بمفهومها المقاوم، تحضرني العديد من قصص البطولة، لكن أسرعها وميضًا في مخيلتي بندقية ثائر، ثائر حماد، بطل عملية (عيون واد الحرمية) التي نفذها على حاجز عسكري اسرائيلي شمال مدينته رام الله عام 2002 خلال انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000، حيث تمكن فيها من قتل 11 جنديًا ومستوطنًا وجرح 9 آخرين بـ24 رصاصة فقط أطلقها من بندقية قديمة ورثها عن جده، تعود للحرب العالمية الثانية.

لم يستشهد القناص ولم يجري اعتقاله، فاحتار المحتل في تحديد هويته، معتقدًا بأن صاحب هذه البندقية القديمة والمهارة في التصويب لابد أن يكون شخصا مسنًا، أو أنه مقاتل قادم من الشيشان بهدف الجهاد في فلسطين، كما أصبحت القصة موضوع حديث الفلسطينيين في جلساتهم ونسجوا عنها قصصا من الخيال.

إلا أنه وبعد مرور 30 شهرًا، أعلنت سلطات الاحتلال عن اعتقال منفذها العجوز ذو الـ26 عاما، والحكم عليه بالسجن المؤبد 11 مرة.

ومن خلف القضبان روى ثائر تفاصيل العملية لاثنين من أشقائه الذين جمعه السجن بهما في زنزانة واحدة، ومن هناك تسربت تفاصيل تلك العملية النوعية التي اعتبرتها "اسرائيل" أخطر عملية تنفذها المقاومة أثناء انتفاضة الأقصى.

في يوم الإثنين الموافق 2/3/2002 استيقظ ثائر قبل الفجر، ثم أدى صلاته وحمل بندقية الـM1 وخرج بعد أن تفقد ذخيرته باتجاه جبل الباطن الواقع إلى الغرب من سلواد شمال رام الله راكبا جواده، وعندما وصل إلى المكان المطل على الحاجز المسمى بحاجز عيون الحرمية -نسبة للمنطقة ووعورتها- والذي سبق أن راقبه لمدة أربعة أيام تمكن خلالها من معرفة أوقات تبديل الدوريات بدقة، ترجل عن جواده وتركه يمضي إلى حيث يريد، فقد أعد ثائر نفسه للشهادة وذهب راغبًا فيها.

كانت الساعة الرابعة فجرًا عندما اتخذ ثائر من جذع شجرة زيتون في المكان ملاذًا ليحتمي به ومرتكزًا لبندقيته التي تفقدها للمرة الأخيرة لكي يطمئن بأن المخازن الثلاثة ذات سعة الثماني رصاصات محشوة بها، ثم أمضى نحو ساعتين يراقب وينتظر استعدادًا لبدء التنفيذ.

ومع شروق الشمس في السادسة صباحًا قام بإطلاق رصاصته الأولى على جنود ذلك الحاجز الذي طالما أذاق أبناء بلدته ألوانًا من الذل والقهر.

كان هناك ثلاثة جنود يحرسون الحاجز فسدد على الأول فاستقرت الرصاصة في جبهته، فعاجل الثاني برصاصة استقرت في القلب قبل أن يكبر ويطلق رصاصته الثالثة لتردي الجندي الثالث قتيلا، وعلى صوت الرصاص خرج جنديان آخران من غرفة الحاجز مذعورين يحاولان استطلاع الأمر فلم يجد صعوبة في إلحاقهما بمن سبقهما، ومن داخل الغرفة ذاتها رأى سادسًا كان يصرخ مثل مجنون أصابه مس المفاجأة، كان ينادي بالعربية والعبرية أن انصرفوا وهو يدور في الداخل، كان سلاحه بيده ولم يطلق في تلك اللحظة الرصاص، لاح رأسه من النافذة الصغيرة فأطلق عليه رصاصة وانقطع الصوت وساد سكون الموت منطقة الحاجز برهة، وفجأت وصلت إلى المكان سيارة مدنية اسرائيلية ترجل منها مستوطنان اثنان، صوب الأول سلاحه وقبل أن يتمكن من الضغط على الزناد كان تلقى رصاصة، وسقط صاحبه اإلى جواره مع ضغط الزناد التالي.

 ثم مضت دقيقتان قبل أن تصل سيارة جيب عسكرية لتبديل الجنود، وما أن اتضح للضابط ومجموعته الأمر حتى ترجلوا وتفرقوا وأخذوا يطلقون الرصاص على غير هدى في كل اتجاه.

 لكن موقع الحاجز في أسفل الجبل مكّنه بشكل جيّد من تحديد أهدافه، وصلت بعدها سيارة أخرى للمستوطنين وشاحنة عربية أجبر سائقها على النزول، إلا أن ثائر تمكن من إصابة المستوطنين إلى جانبه من دون أن يمسه هو بأذى. ويتذكر ثائر كيف وصلت مركبة مدنية اسرائيلية لاحظ أن بداخلها امرأة اسرائيلية مع أطفالها ويقول كانت في نطاق الهدف، ولكنني امتنعت عن التصويب باتجاهها بل صرخت فيها بالعربية والعبرية أن انصرفي خذي أطفالك وعودي ويذكر أنه لوح لها أيضا بيده طالبا منها الابتعاد.

وبعد ذلك انفجرت بندقيته (التي لا تحتمل اطلاق الرصاص منها بشكل سريع لقدمها) مما أجبره علي إنهاء المعركة بطريقة مغايرة لما خطط لها، كان قد أطلق بين 24 و26 رصاصة فقط من عتاده المكون من 70 رصاصة، استقر أغلبها في جسد هدفه.

 فانسحب عائدًا لبيته وأسرع لأخذ حمام ساخن وخلد إلى الفراش في السابعة والنصف صباحًا وأخذ قسطًا من النوم قبل أن يوقظه صوت شقيقه يحثه على الإسراع لتحضير جنازة قريب لهما توفي.

 جرت الأمور بشكل طبيعي ولم يبد على ثائر أية مظاهر غريبة، ومع اتضاح حجم العملية فرضت قوات الاحتلال طوقًا حول بلدة سلواد المجاورة للحاجز ونفذت حملة تمشيط بحثًا عن المنفذ المحتمل والذي ظنته مخابرات الاحتلال رجلًا مسنًا.

 وفي فجر يوم 2/10/2004 قامت قوات الاحتلال باقتحام منزله واعتقاله، وفي صبيحة يوم 6/10/2004 نشرت الصحف العبرية نبأ إلقاء القبض عليه. وترافق اعتقاله مع اعتقال ثلاثة من أشقائه هم نضال وأكرم وعبد القادر الذي اعتقل قبله بعشرة أيام، فيما ترافق اعتقال الآخرين مع الكشف عن العملية.

وبعد 30 جلسة من المحاكمة صدر الحكم على ثائر بالسجن 11 مؤبدا، والتي يقال بأن أغنية (صرخة ثائر) للفنان مارسيل خليفة جائت تخليدًا له.

 *تجدر الإشارة بأنه تم الاستعانة بما ورد في صحيفة القدس العربي فيما يتعلق بتفاصيل العملية