شبكة قدس الإخبارية

وليد دقة وجمال حويل: منهجية النار (2)

عبد الرحيم الشيخ

جمال حويل: الأخوَّة المطلَقة

وأما جمال حويل، ابن مخيم جنين المولود فيه في 4 تشرين الأول 1970 (بعد ستة أيام من وفاة الزعيم القومي جمال عبد الناصر الذي سُمِّي تيمناً به، فيما سُمِّي أخوه التوأم "نجيب" على اسم اللواء الركن محمد نجيب)، فيتحدَّر من عائلة لاجئة قرية زرعين التي احتلت وطهرت عرقياً في 28 أيار 1948 خلال العملية العسكرية التي نفذتها الكتيبة الرابعة من لواء جولاني الصهيوني ضمن عملية "جديون." وجمال حويل هو عضو المجلس التشريعي الفلسطيني حالياً عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح في محافظة جنين، إذ تم انتخابه فيه وهو لا يزال في الأسر الذي وقع فيه في أعقاب معركة مخيم جنين في نيسان 2002 التي كان قائدها إلى جانب القائد الشهيد يوسف قبها (أبو الجندل). ويعتبر حويل قبل معركة مخيم جنين من أبرز قيادات حركة الشبيبة الطلابية، إلى جانب رفيق سلاحه الأسير النائب والقائد الفتحاوي مروان البرغوثي، ومن أبرز مؤسسي وقادة كتائب شهداء الأقصى في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، و"مجموعات الفهد الأسود" في الانتفاضة الفلسطينية الأولى إلى جانب أخيه التوأم الشهيد نجيب حويل الذي اغتالته الوحدات الصهيونية الخاصة في 1 آذار 1991.

وإضافة إلى شهادته اللافتة عن تجربة معركة مخيم جنين في الكتاب الذي أعدَّه وحرره الأسير وليد دقَّة (يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002) فقد أنجز حويل رسالة الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة (معركة مخيم جنين: التشكيل والأسطورة (نيسان 2002). بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2012).

" معركة مخيم جنين: التشكيل والأسطورة (نيسان 2002)"

يشير حويل أن فكرة رسالة لنيل درجة الماجستير، بعنوان: " معركة مخيم جنين: التشكيل والأسطورة (نيسان 2002)" جاءت بعد سلسلة من التجارب الشخصية والوطنية بين التحاقه بجامعة بيرزيت في العام 1999، وانقطاعه عنها في الانتفاضة والمعركة، وخروجه من الأسر في العام 2009. حينها، تنبَّه إلى ضرورة تحويل تراكم كبير من معرفته بمعركة مخيم جنين، ومراحل متعددة من تدوينها، إلى تسجيل تاريخي للمعركة بين "الصورة" والأسطورة." ويتضافر مع هذه الرغبة مجموعة من المبررات التي دفعته لكتابة هذا التاريخ، أهمها: اعتبار معركة مخيم جنين نموذجاً في الإعداد والصمود والتصدي دشَّنت، ولأول مرة، نموذجاً للانتصار على الوحش الصهيوني الاحتلالي من داخله؛ وإعادة تركيب صورة المعركة بعد أن تم تدشين أسطورتها، إن سلباً أو إيجاباً؛ والرغبة في تفسير هذا الفارق الهائل بين "الصورة" و"الأسطورة،" ولعدم وجود مدوَّنة جامعة و"موضوعية" للمعركة... تغيب ويغيب معها ذكر المقاوم/"الباحث" عن الفارق الكبير بين من يصنع التاريخ، ومن يكتبه؛ وإعادة الاعتبار لخيار الكفاح المسلح وإمكانية استنساخ تجاربه الناجحة، وذلك بعد فشل المفاوضات، ومحدودية إنجازات فعل المقامة الشعبية السلمية.

4

وقد انطلقت الدراسة لتبحث في أسئلة عنقودية حول: الخصوصية التاريخية، والعسكرية، والسياسية لمعركة مخيم جنين؛ والخلفيات التاريخية لاستهداف مخيم جنين أخذاً بعين الاعتبار النسيج الاجتماعي والثقافي للاجئي المخيم؛ وأوديسية المقاومة التي أصبحت نموذجاً وطنياً، وإقليمياً، وعالمياً، في مقاومة الاحتلال؛ وعوامل الانتصار والصمود في معركة جنين في ظل وضع سياسي وعسكري غير متوازن؛ وأثر معركة جنين على المخيال السياسي والعسكري والثقافي: فلسطينياً، وإسرائيلياً، وعربياً، وعالمياً. وقد انطلقت الإجابة على هذه الأسئلة من فرضية ناظمة، برهنتها الدراسة الحثيثة والمتقنة، مؤدَّاها: أن خصوصية معركة جنين، مواجهة وانتصاراً، نبعت من قناعة لاجئي المخيم بأنه لا ملاذ آخر لهم ولا لجوء مرة أخرى؛ والتفاف هؤلاء واحتضانهم للمقاومين؛ وتوحُّد قوى العمل الوطني والإسلامي تحت قيادة عسكرية واحدة و"غرفة عمليات مشتركة."

 منهجية النار

 بعد هذه اللفتة المذهلة في التدشين لمنهجية جديدة، هي: "منهجية النار" (إذ المنهج أداة تفصل بين الباحث وموضوع بحثه كما يفصل "ملقط النار" بين يد حامله والجمر، ثم يتحول "الملقط" إلى جزء من اليد ومن النار في آن، أما في حالة كون "الباحث" في نار المعركة، فلا حاجة للملقط)... يشير حويل إلى أنه كمقاوم، قبل أن يكون، "الباحث" باحثاً-مع-وقف-التنفيذ، كان هناك أربع محطات تم من خلالها التوثيق والتدوين، هي: توثيق المعركة عبر تدوين مجرياتها لحظة بلحظة عبر طريقتين: الكتابة وتبادل الأخبار وتداولها (وكان لدى المقاومين كاميرا فيديو بحوزة غسان نغنغية، ومراسل جريدة الأيام محمد بلاص)، ولكن معظم المواد أتلفت أو ضاعت؛ وبث "أخبار المقاومة" عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية من أجل توثيق وحفظ هذه الأحداث؛ وتوثيق المعركة عبر الشهادات الشخصية التي جمعها الأسير وليد دقَّة وخرجت في كتاب "يوميات المقاومة في مخيم جنين؛" ومحاولة توثيق المعركة في السجن عبر مقابلة المقاومين، وكتابة شهاداتهم التفصيلية... ولكن جزءاً كبيراً من هذه الشهادات تمت مصادرته أو جرى إتلافه من قبل إدارة السجون الصهيونية التي تنقَّل حويل خلال أسره قرابة ثماني سنوات فيها أكثر من خمسين مرة؛ وتوثيق المعركة عبر الكتابة الأكاديمية عنها.

Rozan0133

محمد حواشين: لسعة النحلة المباركة

على امتداد صفحتين كاملتين، يدوِّن حويل في "مذكرات المعركة" ليوم الأربعاء الموافق 3 نيسان 2002 تفاصيل اشتداد رحى المعركة، وهول استشهاد القائد زياد العامر بعد اشتباكات عنيفة تمكَّن خلالها من قنص الميجر موشيه غيرتسر وإردائه، بسلاح ناتو كان العامر يحمله... لكن أكثر التفاصيل لوعة ورعة تتكثَّف في قصة استشهاد الطفل محمد حواشين:

"... كان الوقت عند الظهيرة تقريباً من يوم الأربعاء، وكانت الأحداث في طريقها إلى الذروة، فتوجهت أنا وصديق لي إلى بيت صديق ثالث لنا يدعى أبو محمد الحواشين لنستريح قليلاً. فاستأذنا ودخلنا البيت وجلسنا في غرفة الضيوف، أنا وصديقي وأبو محمد، وابنه الطفل محمد حواشين ذي الـ 12 ربيعاً. وبدأنا بالحديث عن أوضاع المخيم، وخلال وقت قصير انتشر خبر استشهاد زياد العامر وهو من المقاتلين الأشداء، فتحول الحديث حول الشهيد زياد.

ثم طلب صديقي حقيبة مدرسية ليضع فيها بعض أغراضه. فذهب الطفل محمد، وأحضر حقيبته المدرسية، وأفرغ جميع محتوياتها من الكتب وأعطاها لصديقي. بعد هذا سألني الطفل محمد سؤالاً غريباً بالنسبة لعمره. قال لي: "يا عمي كيف بستشهد الإنسان؟ وصحيح الاستشهاد إشي مؤلم؟" فأجبته بما يناسب عمره، وهو: أن الإصابة مثل قرصة النحلة، ثم يغمض الشهيد عينيه، ويفتحها فإذا هو في الجنة. فاستغرب الطفل محمد جداً من بساطة المسألة. ثم خرج من البيت متوجهاً إلى مستشفى جنين القريب من المخيم علَّه يستطيع رؤية الشهيد زياد العامر.

وعند وصولة قريباً من ثلاجة حفظ الموتى التي يوضع فيها الشهداء، أصابته رصاصة قنَّاص غادرة في الصدر فاستشهد على الفور بعد حوالي عشر دقائق من سؤاله عما إذا كانت الشهادة تؤلم أم لا. أما أبو محمد، فقد كانت هذه آخر ساعة يرى فيها ابنه محمد لأنه تم دفنه بجانب المستشفى الحكومي هو وعدد آخر من الشهداء. وبعد انتهاء المعركة تم نقلهم رفاتهم جميعاً إلى مقبرة الشهداء بجانب المخيم."

Rozan0134