شبكة قدس الإخبارية

يافا وَجْهٌ آخَر

إبراهيم أبو عرفة
في العام 1939 يجلس أحد عمّال الميناء يراقب سفن البحر المتوسط ترسو هنا خفافاً وثقالاً، يضع آخر صندوق برتقال في مخزن هذه السفينة الإنجليزية بعد أن أحصى سفن اليوم. "خمسٌ وأربعون" ذلك كان عددها. يدوّن هذه المعلومة في ذاكرته جيّدا، فسيذكرها لاحقاً أمام جيلٍ آخر، لم يدرك من يافا ميناءها العربيّ، ولم يقابل بَحَّارتَها أصحابَ الحطّات البيضاء، حتى المدينة عرفها باسم غير اسمها صاحب صفة الجمال. في يوم من أيام فلسطين كانت على هذه الأرض عاصمة البلاد الثقافية والاقتصادية، هنا مدينة المسارح والصحف والموانئ والمصانع. كانت تسمّى يافا في واقع الأمر، لم يكن هناك أثر لتل أبيبَ ولا لتل ربيعٍ على حد سواء. من يافا إلى إسطنبول، وطهران، وبرلين، ولندن، وباريس كان البرتقال الذهبي يصدر فرادى وجماعات منذ العام 1865. وكانت هذه المدن وغيرها تستقبل سنويّا خمسة ملايين صندوقا من برتقالٍ أخرجته بيّارات يافا الفلسطينية. يخرج صباحا من حي العجميّ عامل يافيّ آخر متوجهاً نحو مشغل الحديد الضخم الذي بدأ العمل به حديثاً في قلب المدينة، لم يكن يدرك أنّه سيتعرّف إلى أصدقاء من مصر، وسوريا، والأردن، واليمن، والمغرب لمجرد انضمامه إلى عمّال هذا المشغل. أخرج ليرة فلسطينية من جيبه ووضعها في يد سائق حافلة شركة العلمين اليافيّة، كانت تلك ثمن تذكرة الرحلة إلى بيروت حيث يتوجه هذا الطالب الفلسطيني برفقة العديد من الطلاّب والطالبات الملتحقين بجامعات بيروت. على صعيد آخر، كانت الطريق إلى القاهرة تحتاج لركوب قطار العريش-يافا عبر سكة الحديد التي وصلت المدينة بالقدس، وحيفا، وبئر السبع أيضا. في مدينة يافا، لم تكن بحاجة لشراء الصحف لقراءتها، كنت تستطيع أن تذهب إلى أي مكتبة يوم الجمعة وتقرأ ما شئت من الصحف المحلية والعربية. أمّا عدد الصحف التي صدرت في يافا وحيفا في فترة الانتداب فقد بلغ"206"، أشهرهنّ صحيفتا فلسطين والدفاع. وبعيداً عن السياسة كانت أخبار محاصيل الزرع وإنتاج البرتقال في صحيفة "الأخبار المحليّة". أحيت أم كلثوم عدة حفلات في هذه المدينة، وعرض يوسف وهبي عدة مسرحيات على مسارح يافا المختلفة، وكتب الأديب الفلسطيني نصري الجوزي العديد من النصوص الأدبية لتترجم كعروض مسرحية على مسارح يافا وغيرها. بجانب مقر السرايا الحكومية الذي أنشئ في العهد العثماني والذي ما زال قائما إلى اليوم كانت هناك سينما الرشيد الفلسطينية، إضافة إلى سينما الفاروق، وسينما الحمرا... إلى أن جاء يوم السادس العشرين من نيسان للعام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين. لقد وجدت عصابات الحركة الصهيونية في الحكايات السابقة أسبابا مقنعة لجعل المدينة الفلسطينية هدفا مركزيا لهجومها المخطّط. وكان الهدف إخماد الدور الإشعاعي الذي تلعبه المدينة مع أطرافها الريفية والقروية، وبالتالي القضاء على القيادة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني وقطع صلاتها مع باقي مكونات المجتمع بهدف تحويل المجتمع المترابط والحيوي إلى تجمعات ريفية متفككة لا تملك تقنيات الاتصال والقيادة على المواجهة. md7.jpgez6mosuq وفي ذات الأثناء التي كانت العصابات الصهيونية تمضيها بهدم مكونات يافا ووجودها، كان جزء آخر من مؤسسة الاحتلال يعكف على بناء مدينة موازية تسرق كل البريق، وتحتكر كل الموارد. صادرت بحرها وميناءها، عشبها ورملها، بياراتها ومساجدها.. نُصِبت تل أبيب على الخارطة عنوة. استمرّت حرب الاحتلال ضد المدينة الفلسطينية، وكان إنشاء ما سمّي بالناصرة العليا خطة استعمارية لوقف توسع مدينة الناصرة والسيطرة على مواردها البشرية، والاقتصادية. تكرّرت الروايّة في مدينة القدس، مُنعت رخص البناء والتوسع لأهلها في أحياء شرقي القدس، وفي المقابل أطلق العنانُ لتجمعات اليهود التجارية في غربي القدس وقرب شرقي القدس وحتّى في قلبها. عدتُ إلى ميناء يافا، نظرتُ يمنة ويسرى، تكاد عيني لا تخطئ هؤلاء المآذن الثلاث على شاطئها، فرغم وحشية انتشار بنايات "تل أبيب" الشاهقة، تضيء مآذن كل من مسجد "حسن بيك" و"البحر" و"يافا الكبير" بالضوء الأخضر اللّامع، محدّثة كل سفينة قادمة من أعماق المتوسط: "هُنا يافا العربيّة.. ميناءُ فِلَسطين، وقلبُها النابض.. أسرارُ العاشقين، وأحلامُ المبدعين، وتضحيةٌ الشّهداء". "- وَيْحكم." قلت لنفسي وقد ابتسمتُ من أعماقي، أخذتُ شهيقاً من هواء البحر، وتلاقتْ عيناي مع أمواجه، فككتُ رموزَ رسالةٍ ذُيّلت بتوقيعِ المقاومةِ الفلسطينية " إنّا عائدون مع "الفَجْر" ".