شبكة قدس الإخبارية

العيش كصورة كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة (1)

طوني صغبيني

هل يمكن تخيّل الحياة من دون فايسبوك؟

 

"لقد أصبح من الواضح جداً أن تكنولوجيتنا قد تخطّت إنسانيّتنا"

انيشتاين

السؤال المطروح في العنوان ليس مجرّد سؤال، بل هو جملة تختصر إلى حدّ بعيد روح عصرنا، وخاصة لدى الجيل الشاب. بالنسبة للكثيرين منّا، مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفايسبوك لم تعد مجرّد مواقع على الانترنت، بل باتت جزء من حياتنا الاجتماعية اليومية، جزء من مقوّمات الشخص “الطبيعي” في مجتمعاتنا. ليس غريب علينا أن تكون الغالبية الساحقة غير قادرة اليوم على تخيّل الحياة من دون فايسبوك. الجواب بالنسبة للأكثرية على سؤالنا الغريب هو “لا” قاطعة. لكن الحياة وُجدت، ومن السخرية أن نكتب ذلك، قبل أن يوجد الفايسبوك. ونحن نكتب هذه السلسلة الآن لنضيف على تلك الحقيقة البديهية حقيقة أخرى: الحياة الصحّية، الغنيّة والمُرضِيَة في عالم الضجيج الالكتروني الذي يحيط بنا، هي تلك التي نحياها من دون فايسبوك. الخلاصة الأخيرة قد يراها الكثيرون خلاصة غير واقعية، وربّما يرونها مثيرة للشفقة والاستغراب، بدائية ومعادية لـ”التقدّم” – هذه الكلمة التي تحكم نمط تفكيرنا اليوم كأنها دين مُنزل. لكن إن كان القارىء يمتلك ما يكفي من الصبر لمتابعة القراءة مقال بعد آخر، اعتقد أنه سيكون أكثر تفهّماً لوجهة النظر هذه. يعرّف الفايسبوك عن نفسه على أنه “مؤسسة اجتماعية تصل الناس مع الأصدقاء والآخرين اللذين يعملون، يدرسون ويعيشون قربهم”. لكن دوره على أرض الواقع أكبر بكثير من ذلك. بدأ الفايسبوك كمكمّل ثانوي للعلاقات الاجتماعية لكنّه يتحوّل، ومن دون أن نشعر، إلى بديل عن التفاعل الاجتماعي الحقيقي. النتيجة هي تراجع هائل في العلاقات الحميمة، سواء كانت صداقة أم غير ذلك. الفايسبوك تحوّل إلى ركيزة أساسيّة في علاقاتنا والخروج منه يشبه، على حدّ تعبير أحد الصحافيين، مغادرة المدينة والانتقال إلى العيش في قرية نائية. من ينتقد الفايسبوك اليوم يظهر كأنه ينتقد الحياة الاجتماعيّة بحدّ ذاتها أو أنه معادٍ للمجتمع والتقدّم التكنولوجي، رغم أن الفايسبوك ليس في نهاية المطاف سوى موقع الكتروني. الموقع يمتلك بعض النقاط الإيجابية التي نعترف بها، منها أنه فتح العالم على بعضه بعضاً إلى درجة غير مسبوقة، ساعد في الحفاظ على التواصل مع أناس بعيدون عنّا، سهّل عمليّة التعرّف على أشخاص يشبهوننا، كان مفيداً في الكثير من القضايا السياسيّة والاجتماعيّة، ساعد كثر منّا على تعزيز تقديرهم الذاتي لأنفسهم وإعطائهم دعم معنوي مهمّ في الحياة، ساعد العديدين على إيجاد وخلق فرص عمل، وكان وسيلة ترفيه مهمّة لملايين حول الكوكب. لكن السطوة الذي بات يمارسها هذا الموقع على حياتنا الاجتماعيّة اليوم تحتّم علينا البدء بتقييمه من وجهة نظر نقديّة. لا يمكن أن نسمح لأمر بهذا الحجم أن يهيمن على إحدى أهم أبعادنا كبشر – علاقاتنا الإنسانيّة مع بعضنا البعض – من دون أن نضعه تحت المجهر. الخلاصة الأساسيّة التي توصّلنا إليها خلال كتابة هذه السلسلة من المقالات هي أن الفايسبوك، رغم منافعه، يأخذ منّا أكثر بكثير مما يعطينا. الشبكات الاجتماعيّة هي في الواقع، كارثة بطيئة تحلّ على العلاقات الإنسانيّة. بعد التلفزيون الذي حوّل الكثيرين منّا إلى مجرّد مشاهدين، وبعد ثقافة الاستهلاك التي حوّلت من تبقّى منّا إلى مجرّد مستهلكين، تأتي الشبكات الاجتماعية لتجعلنا مجرّد أرقام وصور على الشاشة، لتلغي آخر معالم إنسانيّتنا. نحن اليوم نتحوّل إلى مجرّد جموع؛ حتّى علاقاتنا الإنسانية لم تعد إنسانيّة بل باتت علاقة فرد بشاشة، بـ”جموع” من دون وجه ولو كانت هذه الجموع تضع صور لوجوهها على موقع أزرق. خلاصتنا حول الفايسبوك تقول أنه ليس موقع للتواصل الاجتماعي بل العكس تماماً، للانفصال الاجتماعي؛ هو يشجّع على العزلة وعلى تخفيض التفاعل الإنساني المباشر في حياتنا إلى أدنى درجة ممكنة. هذه السلسلة من المقالات ستناقش هذه الخلاصة، على أمل أن تشجّع بعض القرّاء على استعادة السيطرة على علاقاتهم الاجتماعية بدل تسليمها للانترنت، حتى ولو كان ذلك يتطلّب اتخاذ خطوة “الانتحار الالكتروني” وإلغاء شخصيتهم الافتراضية على الفايسبوك. المقالات ستتناول العديد من الأوجه الفايسبوكية، بدءاً من تجربتنا الشخصيّة مع الموقع، مروراً بقدرته على تحويلنا إلى مجرّد رقم وصورة، تأثيره على سعادتنا وتقديرنا الذاتي، وصولاً إلى المخاوف الأمنيّة على معلوماتنا الشخصيّة والدراسات النفسيّة التي تتحدّث عن تأثيراته على حياتنا. لا أتوقّع من القرّاء أن يوافقوا على كلّ ما سيرد من أفكار على متن هذه المقالات، خاصة أنها ليست بحثيّة بالكامل بل أكثرها مقالات رأي، وأدعوهم إلى البحث بأنفسهم والتوصّل إلى خلاصاتهم الشخصيّة الخاصّة حول الموضوع، ولو كانت تتناقض بشكل كامل مع ما يرد في هذه السلسلة. الطريقة الأفضل لبدء البحث هي في رأيي المتواضع، البدء مع الذات: اختبار تأثير الفايسبوك على حياتنا نحن. لذلك، أوجّه دعوة متواضعة لكل من يقرأ هذه السطور الآن ويريد أن يكتشف حقاً تأثير الفايسبوك على حياته أن يقوم بتجربة على ذاته، وأن يبدأها اليوم قبل الغد وهي: إقفال حسابه على الفايسبوك لثلاثون يوم وعدم الدخول إلى الموقع طوال هذه الفترة (زرّ deactivate موجود في Account Settings تحت بند Security). معظمنا لا نستطيع تخيّل مرور يوم من دون التحقّق من الفايسبوك، والوسيلة الأفضل لنعرف تأثيره الحقيقي على حياتنا هي أن نلغيه منها لشهر كامل ونلاحظ: كيف كان يؤثّر على حياتنا؟ هل تغيّرت نحو الأفضل خلال هذا الشهر أم نحو الأسوأ؟ هل تحسّنت علاقاتنا مع الناس القريبة منّا؟ هل أصبحنا أكثر حضوراً في إيامنا؟ هل افتقدونا الأصدقاء؟ هل افتقدناهم نحن؟ هل أصبح يومنا أفضل وأكثر انتاجية أم العكس؟ ما الذي خسرناه وما الذي ربحناه من إقفال الفايسبوك؟ بهذه الطريقة، لن تبقى المقالات التي سيطّلع عليها القارىء هنا مجرّد مقالات وكلمات في الهواء، بل سيستطيع أن يقارن ما نتحدّث عنه فيها مع ما يحصل فعلياً في حياته ويوميّاته. المدوّنة مفتوحة من خلال التعليقات أمام الجميع ليشارك تجربته معنا، ومفتوحة أيضاً لمساهمات حول التجربة الشخصيّة أو حول الفايسبوك بشكل عام. وإذا كانت الكميّة كافية يمكن أن نعمل على كتابة تدوينة مشتركة للحديث عن تجربتنا الجماعيّة خلال هذا الشهر. أقفلوا الفايسبوك اليوم واذهبوا لاحتضان الناس القريبة منكم، للتسكّع مع أصدقائكم، للتمتّع بالشمس والتحرّر من سطوة الشاشة والصور والتدفّق اللانهائي للمعلومات. إذا أردتم أن تعرفوا تأثير الفايسبوك على حياتكم، حاولوا لشهر كامل، ألا تعيشوا كصورة!