شبكة قدس الإخبارية

البرغوثي: مهندس القسّام الخفيّ الذي لا "يخف" إصراره (1)

لارا يحيى

في التاريخ الفلسطيني القريب، ظهرت شخصية مُقاوِمة فذة عُرفِتْ باسم المهندس يحيى عياش. اغتيل العياش، ابن بلدة رافات قرب سلفيت المحتلة، في بيت لاهيا شمال قطاع غزة بتاريخ 5 يناير 1995 باستخدام عبوة ناسفة زرعت في هاتفه النقال، و من بلدة ليست بالبعيدة عن سلفيت ظهر من بعده من يُعرف بخليفة العياش.

إلى بيت ريما، إلى الشمال الغربي من رام الله المحتلة، ينتمي صاحب أعلى حكم بتاريخ دولة الاحتلال الإسرائيلي الأسيرُ عبد الله البرغوثي، الذي يقضي حكماً بالسجن بـ 67 مؤبداً.

من هو البرغوثي؟

اسمه الكامل عبد الله غالب عبد الله البرغوثي، فلسطيني يحمل الجنسية الأردنية، وُلِدَ في الكويت عام 1972، بعد أن كان والده قد هاجر إليها في ستينيات القرن الماضي لتحسين ظروف عائلته. في الكويت كانت لم تكن طفولة الأسير عادية جداً، فقد كان طفلاً مشاكساً كثير "الغلبة" كما قال والده، مستذكراً أنه في عمر السابعه صعد إلى مخزن صغير في المنزل يستخدم لحفظ مؤونة العائلة بعد أن تناكف مع والده، وبعد ساعات من البحث اكتشفوا أنه نائم هناك، لقد قلقنا عليه بشدة يقول والده مبتسماً.

عاش عبد الله ظروف الأسر أول مرة حين لم يكد يبلغ الخامسة عشر من عمره إثر مشاركته في مظاهرة في الكويت خرجت ضدّ قوات الإحتلال الأمريكية في حرب الخليج الأولى. خرج من الأسر بعد شهر من نهاية الحرب، وانتقل مع عائلته إلى الأردن في السابعة عشر من عمره.

بعدها بسنوات انتقل عبد الله إلى كوريا الجنوبية حيث تعلم الكورية والهندسة الالكترونية في مجال تصميم وتصنيع اللواقط الفضائية، دون أن يستطيع اتمام دراسته. تزوج من إحدى الفتيات الكوريات، ومكث هناك خمس سنوات. قبل أن يعود إلى الأردن برفقتها، وفي العام 1998 قرر عبد الله العودة لفلسطين عبر تأشيرة زيارة وولج إلى بيت ريما التي حرم منها لفترة طويله، كان قبلها بفترة قد انفصل عن زوجته الكورية بعد أن رفضت زواجه الثاني.

في ذات العام تزوج من إحدى قريباته -سائدة البرغوثي-، وشرع بتكوين عائلة، تقول سائدة زوجته عنه: "كان حنوناً بشكل لا يوصف، وطيبته لا تنسى حتى اليوم بعد نحو 10 سنوات على سجنه". وعاطفة عبد الله التي لم يكبتها أسر الاحتلال تظهر جلية في كتابه "مهندس على الطريق.. أمير الظل" الذي نشر بداية العام 2012 فيما يشبه الرسالة المليئة بالعاطفة لابنته الكبرى (تالا) رداً على رسالة لها تسأله فيها عن السبب الذي دفعه إلى تركها في السيارة لحظة اعتقاله وعمرها 3 سنوات عام 2003.

عاش عبد الله مع زوجته منذ العام 1998 وحتى العام 2003 إلى لحظة اعتقاله، ورغم أن قوات الاحتلال كانت قد طاردته عامين إلا أنها لم تكن تعلم تفاصيل وجهه، وصدفة اكتشفت اسمه الحقيقي، وحتى في ذلك الوقت الذي اعتقل فيه لم يكن يحمل هويته الحقيقية فقد تنقل هو وزوجته بحسب قولها بين عدة بيوت في مدينة رام الله للحفاظ على سرية عمله، والحفاظ على زوجته التي كانت مهددة بالاعتقال هي الأخرى لمساومة زوجها بالافراج عنها مقابل تسليم نفسه.

في صباح الخامس من آذار عام 2003 خرج عبد الله مصطحباً ابنته الكبرى تالا المريضة إلى أحد الاطباء للإطمئنان عليها، ولكنه فوجىء بالقوات الإسرائيلية الخاصة في حيّه تحاصره وتكبل يديه. ألقوا به في سيارة عسكرية، وتركت الصغيرة على الرصيف في صدمة وبكاء مرير.. بحسب ما روى في كتابه.

عاما المطاردة ولحظات الاعتقال

في سؤالنا لأم أسامة، زوجة عبد الله، إن كانت قد خافت من فكرة الاعتقال وهي تتنقل مع زوجها من بيتٍ لآخر ومن مكانٍ لآخر بهوياتٍ مزورة وانقطاع عن أهلها في بيت ريما لما يقارب العامين، قالت: "هناك شيء سحري في الموضوع وكأن يد الله هي العليا. وعبد الله كان له دور كبير في طمأنتي والأطفال، كنا نشعر دوماً بالراحة وعدم الخوف أو القلق، وكأننا نحيا حياة طبيعية جداً وهو ما يحاول أن يعكس ذلك في كلّ تصرف".

تضيف: "يوم اعتقاله مثلاً طلب مني ألا أقلق بشأن فطور تالا ووعدها قبل أن يخرجا أن يصطحبها للإفطار فور أن ينتهيا من زيارة الطبيب. ولقد كنتُ منهكة القوى كوني قد خرجت من حالة ولادة قريبة أنجبت فيها صغرى بناتنا "صفاء" التي لم يتجاوز عمرها 35 يوم آنذاك". خرج الاثنان في الثامنه صباحاً، وحتى الساعة الثانية لم يكن قد ورد زوجته أي خبر، وهي التي كانت تتلصص على نوافذ المنزل في انتظار عودة زوجها وابنتها.

في التاسعة مساءً أعلن عن اعتقال شاب هو نفسه عبد الله لكن بهوية مزورة وهو الأسلوب الأمثل للإختفاء الذي كان قد انتهجه الأسير عبد الله حتى اعتقاله. وأعلن التلفاز أن الشاب ترك خلفة فتاة صغيرة تحفظت عليها الشرطة الفلسطينية. انتظرت سائدة حتى الصباح وتوجهت إلى مركز الشرطة، فأبلغوها بأن عمها استلمها. رفضت سائدة التعريف عن نفسها، وبقيت في المنزل يومين بحسب الاتفاق، قبل أن تعود إلى بلدتها بيت ريما.

الأمور لم تكن بهذه البساطة، لقد دوّخهم خليفة العياش. يبدو من الشهادات التي ترويها زوجته حول تجارب الاحتلال لإعتقاله أو على الأقل التثبت من هويته، تذكر أيام اجتياح رام الله في عام 2002 الذي استمر لـ 22 يوماً، داهمت قوات الاحتلال منزلهم لأكثر من 4 مرات، وطلبوا الهويات ودققوها واوقفوا عبد الله لمرتين ولم يستطيعوا ايقاعه بقبضتهم لعدم تثبتهم من أنه عبد الله.

الزوج المحب للمغامرات، والمحب لعائلته كان يحاول حمايتهم وتأمين بقائهم بجانبه حتى آخر رمق. من أجل ذلك تملك البرغوثي ثلاث شقق في أماكن متفرقة داخل رام الله، حتى اذا اجتاحت قوات الاحتلال منطقة انتقلوا إلى ثانية، بقلبِ بارد يحمل أطفاله ويصطحب زوجته وينقلهم لمكانٍ آخر. إلا أن آخر أيامٍ أمير الظل كان القصف المحتدم يشغل باله، فتوقف عن التنقل من بيت لآخر وكله تخوف من أن يتم استهدافه وأبنائه، فقرر أن يستأجر منزلاً منعزلاً قليلاً كي يضمن عدم تضرر أحد غيره والعائلة.

الحكم وأيام الاعتقال الأولى

وبقي الأمل حياً في نفس سائدة أن يعود زوجها كما المرات السابقة، الا أن هذا لم يحدث، فاضطرت أن تعود لمنزلها في بيت ريما هي وثلاثة أطفال كانت أكبرهم تالا 3 أعوام ونصف، أسامة، وأصغرهم صفاء التي لم تتم أربعين يوماً. بعد اليوم الثالث لإعتقاله وبعد أن تعرضت هي نفسها لتحقيق ميداني في شقتهم في بيت ريما، وتثبت الاحتلال من هويته، ونشرت الصحف الخبر الأبرز عن اعتقال مهندس "القسّام" عبد الله البرغوثي، أدركت سائدة أن لا عودة وان ما حدث قد حدث.

[caption id="attachment_21570" align="aligncenter" width="576"]صفاء ابنة الأسير عبد الله ووالدتها صفاء ابنة الأسير عبد الله ووالدتها[/caption]

وعلى الرغم من أن أقصى مدة تحقيق مسموح بها قانونياً في عرف الاحتلال لا تتجاوز التسعين يوماً، إلا أن التحقيق المتواصل مع التعذيب استمر مع عبد الله البرغوثي أكثر من خمسة أشهر، حيث اعتقل في آذار وخرج من التحقيق في نهاية شهر آب من نفس العام. وفي الحادي والثلاثين من تشرين ثاني 2003، عقدت المحكمة العسكرية الإسرائيلية جلسة عاجلة نطقت فيها بالحكم النهائي: 67 مؤبداً وهو أعلى حكم ضدّ أسير فلسطيني.

أم أسامة قالت إن الحكم بـ 67 مؤبداً مقرونٌ بعدد الإسرائيليين الذين تسبب البرغوثي بمقتلهم على حدّ زعم الاحتلال، فقد اتهم بالمسؤولية عن العمليات الإستشهادية منذ عام 2000 وحتى 2003 والتي قتل فيها 67 إسرائيلياً. زوجته لم تكن تتوقع هذا الحكم، وتمنت أن يكون أقل من هذا بكثير، في حين أن عبد الله نفسه بحسب قولها توقع ألا يكون الحكم أقل من المؤبد، والأمران سيان.

ما بين واقع الاعتقال الطويل، والأمل بالفرج العاجل

في لحظات الاعتقال الأولى، وتوقعات الحكم الطويل لم يخطر ببال أم أسامة أن "لا ترى زوجها أبداً" فلكلِ شيء نهاية، وهي التي وجدتْ نفسها تربي ثلاثة أطفال ووالدهم بعيد عنهم. كانت تأمل بقرب الفرج منذ اللحظات الأولى للإعلان عن خطف الجندي في جيش الاحتلال الاسرائيلي "جلعاد شاليط".

بعد نحو 3 سنوات من اعتقال عبد الله، واستمرار التفاوض لخمس سنوات على صفقة تبادل الأسرى، كان الشعور السائد في منزله وكأنه على سفر له نهاية، وهو ما كان يجول أيضاً في ذهن الأسير الذي يحمل التفاؤل والأمل وسط زنزانة العزل الانفرادي، وشعورة الدائم أن الاعتقال لن يدوم.

تقول أم أسامة إن رسائل الصليب هي الوسيلة شبه الوحيدة للتواصل معه، وتصفها برسائل الكفاف يرسلها الأهل لبث الأمل في نفس الأسير دون أن تشمل أية بنودٍ تفصيلية عن حياة الأسير أو أهله. والوسيلة الثانية هي الرسائل الشفوية عن طريق المحامين، وآخر رسالة وصلتهم منه في العزل والاضراب حملت معانٍ كبيرة لأبنائه الذين زاروه سبع مرات بعد إضراب الأسرى الأخير الذي خرج بموجبه من العزل بعد 10 سنوات.

[caption id="attachment_21571" align="aligncenter" width="576"]تالا ابنة الأسير عبد الله البرغوثي تالا ابنة الأسير عبد الله البرغوثي[/caption]

بخدودٍ متوردة قالت تالا كبرى بنات الأسير عبد الله عن زيارتها له آخر مرة: "تحادثنا بشكلٍ عادي عن كلّ شيء، كانت عندي أمنية تمثلت في احتضانه وهي تراودني كثيراً، فأنا أشتاق له كثيراً".

يتبع.

*ساهم في إعداد مادة هذا التقرير كلّ من: إسراء السخل، شهاب شهاب، وفادي حلاحلة.