شبكة قدس الإخبارية

التمويل والهيمنة: شباك التمويل الاجنبي والسينما (2)

رانيا حداد
لكن كيف يصوغ التمويل الأجنبي عقلنا وميلنا ويعيد تركيب نسيجنا الاجتماعي والثقافي؟ ما الثمن؟ تضطلع جهات التمويل الأجنبي ببسط نفوذها سينمائياً في المنطقة العربية عبر تأسيس وتمويل شبكة من النشاطات الثقافية والسينمائية المتنوعة والمترابطة والمتشابكة. تخدم هذه الشبكة في المحصلة أهدافها التي يتعلق بعضها بالتطبيع والتعايش مع العدو اللإسرائيلي، وبالنفاذ ثقافيا إلى المتلقي العربي ومن قبله إلى المبدع والمثقف العربي. خلال ذلك تشكل بعض المؤسسات والصناديق العربية الحكومية وشبه الحكومية وبعض الأفراد العاملين بالمجال محل الاهتمام أذرعاً تنفيذية محلية لخططها، فتتسع دائرة نشاطات تلك المؤسسات وفق خطط ممنهجة طويلة الأمد لتشمل نشاطات غير مباشرة التأثير، فهي لا تعمل على اللحظة الزمنية الراهنة بقدر ما تلقي ببذارها لتحصدها بعد حين، وهنا يكمن خطرها الأكبر. بعض هذه النشاطات وآلياتها: 1- تسمية "الشرق الاوسط وشمال افريقيا" وأجندة التطبيع: من اللافت للانتباه أن أغلب المؤسسات والهيئات السينمائية العربية والتي يتلقى بعضها تمويلاً أجنبياً تشترك في حالة تكريس لتسمية "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، أو تسمية "دول جنوب البحر المتوسط"، وإحلال هذه التسميات محل "الوطن العربي"، لادماج الكيان الصهيوني مع البلاد العربية، وجعله جزءاً من نسيجها الجغرافي، والاقتصادي، والثقافي… ومن ناحية أخرى طمس أية ملامح ممكنة لهوية عربية تحت مسمى الشرق الأوسط. فنقرأ مثلا على صفحة (الهيئة الملكية للافلام) الإلكترونية في باب المهمة والرؤيا ما يلي: "تشجيع الأردنيين وجميع الأشخاص في الشرق الأوسط على سرد قصصهم". والهيئة الملكية هي هيئة حكومية مستقلة مالياً وإدارياً، تأسست عام 2003، وأنشأت عام 2011، "صندوق الأردن للأفلام" بمنح تبلغ نصف مليون دينار سنويا لتمويل الأفلام السينمائية. كما نقرأ على الموقع الإلكتروني لـ (معهد البحر الأحمر لفنون السينما) في العقبة، أنها تفتح أبوابها للشباب "من شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط"، وهي جامعة وقعت الهيئة الملكية للأفلام اتفاقية تأسيسها عام 2008. كذلك كان الأمر مع (مهرجان أبو ظبي السينمائي)، فحتى دورته الثانية كان يحمل اسم مهرجان الشرق الأوسط السينمائي، وبعد الضجة التي أثيرت حول سر التسمية قامت إدراته بتغيير الاسم. لا يشذ عنهم (صندوق مؤسسة الدوحة للافلام) في قطر، إذ يخصص منحه التمويلية "لأفلام منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السينمائية”. مرة أخرى نقرأ هذا الهدف ولكن بشكل صارخ في برنامج (الأوروميد السمعي البصري) الموجه "لدول جنوب البحر الأبيض المتوسط"، أو "شمال إفريقيا والشرق الأوسط"، ومن هنا جاءت تسمية الاورو- ميد او الاورومتوسطي، وحسب تعريف موقع الاوروميد الالكتروني للدول المستهدفة فهي:الجزائر، ومصر، والأردن، وإسرائيل، ولبنان، والمغرب، وسوريا، والأراضي الفلسطينية، وتونس، بمعنى آخر ثمان دول عربية مضاف إليها الكيان الصهيوني، ومؤخراً بعد سقوط نظام القذافي بدعم من حلف الناتو، اُدخلت ليبيا ضمن دائرة الدول التي يستهدف المشروع دمجها بعملية التطبيع هذه. ومن بعض مشاريع المرحلة الثالثة من هذا البرنامج: - "محترف الشرق الأوسط للأفلام": لنلاحظ هنا التسمية، القائم على المشروع: الهيئة الملكية للافلام، من أهداف المشروع "تدريب فرق مكونة من مخرجي ومنتجي الأفلام العرب… ودعمهم في تحقيق مشاريعهم، وتشجيع التعاون في مجال صناعة الأفلام على المستوى الإقليمي". - "غرين هاوس": القائم على المشروع: المؤسسة الجديدة للسينما والتلفزيون، وهي مؤسسة اسرائيلية، ويستهدف المشروع تطوير الأفلام الوثائقية لخريجي مدارس السينما في منطقة البحر الأبيض المتوسط. أما الفئة المستهدفة فهم خريجو مدارس السينما، وصناع الأفلام الصاعدون من (الجزائر، ومصر، والأردن، و"إسرائيل"، ولبنان، والمغرب، وسوريا، وتونس). وبعض ورش عملها اقيمت في مدينة العقبة الاردنية. - "الوصول إلى الأسواق في عصر التكنولوجيا الرقمية": من الشركاء القائمين على المشروع: معهد البحر الأحمر للفنون السينمائية - الأردن، والسيناريو وكتابة الجنوب- تونس، يستهدف المشروع المؤهلين من المنتجين والمدارء من: الجزائر، مصر، الاردن، "إسرائيل"، لبنان، المغرب، والأراضي الفلسطينية المحتلة، سوريا، وتونس. - دوك ميد DOCmed: القائم على المشروع: بيروت دي. سي – لبنان، وهو تجمع بين محترفين من منطقة المغرب والشرق الأوسط في مجال الأفلام الوثائقية للمشاركة في برنامج تدريبي لمتابعة ودعم تطوير مشاريع تلك الأفلام. - ديا سود ميد DIA SUD MED: القائم على المشروع: مدرسة الفنون البصرية – مراكش، الشركاء: المعهد العالي لفنون متعددة الوسائط في المنوبة/ تونس، الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة – جامعة البلمند/ لبنان، قناة فرنسا الدولية. 2- منح بسيطة وتغييب للصناعة السينمائية: المنح المالية التي تقدمها صناديق التمويل العربية صغيرة في قيمتها ولا تفي الفيلم كامل تكاليفه، وهي سياسة مقصودة لتكريس إنشاء جيل معتمد على تمويلها من خلال فتات منح، لا يمكن معه سوى إنتاج افلام هنا وأخرى هناك، وللحيلولة دون بناء صناعة سينمائية وطنية متكاملة ومستقلة قائمة بذاتها ولذاتها، وبذلك سيعتمد هذا الجيل على الأولويات والمواضيع التي ترسمها الجهات المانحة. 3- الثقة والمضمون: تسعى بعض المؤسسات والصناديق العربية إلى بناء الثقة مع السينمائيين العرب، لإنشاء جيل من المبدعين يعتمد على تلك الجهات كمرجعية موثوقة، وذلك عبر تبني قضايا ومواقف عربية وطنية، وبالإبتعاد عن مشاركة ظاهرة لـ"إسرائيل" في نشاطها، هذا التكتيك يساهم في بناء الشعور بالثقة لدى السينمائيين العرب بعضهم مرموق ومشهود بوطنيته، فَيُسقِط هؤلاء السينمائيون – عن قصد أو غير قصد- حقيقة وتوجهات جهات التمويل التي أوجدت تلك المؤسسات وتدعمها. تكتيك آخر تتبعه تلك المؤسسات والصناديق والبرامج، فلا تظهر تدخلاً مباشراً في مقولة الفيلم، لكنها غالباً ما تركز على ثيمات بعينها تتوافق والطرح الفكري للجهات المانحة، كما تُجزئ القضايا وتفصلها عن سياقها السياسي والإقتصادي، بالتالي تُمنَح الأولوية لتمويل أفلام تنطوي على تلك المواضيع والثيمات كـ: التبادل الثقافي، التسامح، التعايش، الشخصية اليهودية، حقوق الانسان، الجندر وحقوق المرأة، قضايا الشرف، حرية التعبير، الهوية السياسية، الديمقراطية. شكل ناعم آخر يمارسه التمويل الأجنبي للتدخل وإجراء تعديلات على مضمون الأفلام، فوفق آلية تمويل المنح الصغيرة يضطر صناع الأفلام العربي للإنتقال من صندوق إلى آخر ومن طلب إلى آخر، وكلّ مؤسسة تمنح تمويلها تفرض عقد ورش عمل ليناقش صناعُ الفلام نصوصَهُم مع خبراء عرب ودوليين، وهذا يحيلنا إلى قدر التدخل في النصوص؛ فمن ورشة في مؤسسة إلى ورشة في مؤسسة اخرى، ومن رأي وتوجيه خبير هنا إلى رأي وتوجيه خبير هناك، فتغيير على النص هنا وتغيير على النص هناك… ولا يشذ عن هذا النوع من التدخلات الأفلام العربية التي تمولها أو تساهم في تمويلها مؤسسات اجنبية. عدد كبير من صناع الأفلام يتجاوب مع هذه التدخلات، كما في فيلم "أمريكا" للمخرجة الفلسطينية المقيمة في الولايات المتحدة شيرين دعيبس، الذي تتناول فيه شخصية اليهودي الطيب الذي قدم للبطلة الفلسطينية المساعدة في أمريكا، وكذلك فيلم "انسان شريف" وهو فيلم لبناني يتحدث عن جرائم الشرف في الاردن، من اخراج جان كلود قدسي، وهو انتاج لبناني فرنسي قطري مشترك. وكذلك عدد كبير من افلام المخرج المصري يوسف شاهين، كان من بينها فيلم قصير – من انتاج امريكي- شارك فيه شاهين مع مجموعة افلام قصيرة لمخرجين عالمين من بينهم مخرج اسرائيلي، قدم كل منهم رؤيته بعد مرور عام على تفجيرات البرجين في احداث 11 ايلول، واذ بيوسف شاهين يقدم معالجة ساذجة يسطح من خلالها الصراع العربي الاسرائيلي، ويحرف الصراع عن مساره، ويساوي بين الجلاد والضحية، ويقدم وصفته للتعايش من خلال الفكرة محورية في الفيلم ومفادها ان المشكلة الرئيسية تكمن في غياب الحوار والفهم المتبادل بين الاطراف المتنازعة، هي التي تحول دون السلام والتعايش. في المقابل هناك القليل من المخرجين تمكنوا من التعامل بذكاء مع التمويل الأجنبي دون أن يقدموا تنازلات ودون ان نلمس اثرا للاملاءات. 4 - وجه وعدة أقنعة: المتتبع لاغلب برامج وصناديق التمويل العربية التي تقدم دعمها للثقافة والفنون من ضمنها السينما والفيديو سيجد ان الجهة التمويلية ذاتها تقوم بنفس الوقت على دعم عدة مؤسسات -متناسخة – تحمل أسماء مختلفة صوريا، لان بعضها يكون منبثق من الاخرى، بالاضافة إلى السمات والاهداف المشتركة التي تجمع تلك المؤسسات. فنجد مثلا: (مؤسسة المجتمع المفتوح) لرجل الأعمال اليهودي الامريكي جورج سوروس، و(مؤسسة فورد الامريكية) المعروفتان بأجندتهما التطبيعية وبدعم الكيان الصهيوني، بالاضافة إلى (مؤسسة دوين الهولندية) هم كبر الداعمين لعدد من لمؤسسات عربية غير ربحية كـ: (المورد الثقافي) التي تأسست في القاهرة عام 2004، و(الصندوق العربي للثقافة والفنون- آفاق) الذي تأسس عام 2007، والمفارقة ان صندوق آفاق عبر موقعه الالكتروني، لا يأتي على ذكر انه في حقيقة الامر منبثق عن مؤسسة (المورد الثقافي)، التي ورث منها جهات تمويلها الرئيسية بتوجهاتها واجندتها، ولكنا نقرأ ذلك فقط على صفحات موقع المورد الثقافي الالكتروني حيث يذكر ان فكرة تأسيس الصندوق بدأت “عام 2004، بمبادرة من مؤسسة (المورد الثقافي)… وبالتشاور مع ما يزيد عن أربعين مؤسسة ومنظمة ثقافية وأفراد وجهات مانحة كبرى… التي تعمل جميعها في المنطقة العربية”، تم تسجيل الصندوق العربي للثقافة والفنون في سويسرا، ويعمل في المنطقة العربية عبر مكتب له في العاصمة الأردنية عمان.