شبكة قدس الإخبارية

فصل آخر للنكبة الفلسطينية في مصر

عبد الرحمن منصور

الليلة الماضية قضيتها في مطار القاهرة، بين ترقب وقلق وعلى أمل أن يتراجع جهاز الأمن الوطني -أمن الدولة- عن قراره بترحيل لاجيء فلسطيني سوري إلى دمشق.

عبد الجبار محمد بلال، لاجيء فلسطيني سوري من مُخيّم اليرموك وصل وأسرته إلى مصر قبل ثمانية أشهر، حصل على إقامة سياحيّة من تلك التي يحصل عليها اللاجئون الفلسطينيون السوريون حين دخولهم إلى مصر، تُجدّد كل شهرين، ولا تسمح له بالعمل ولا يُسجّل ضمن مستحقّي الإعانات التي تُقدّمها المفوضيّة العليا للاجئين للاجئين السوريين الفارّين من القتال في سوريا. لسياسات بدأت وقت وقّع السادات على معاهدة كامب ديفيد وسياسات أخرى أقرّها مبارك إبان خلاف مصر مع منظمة التحرير وقت أن ساندت العراق في حربها على الكويت.

عمل عبد الجبار كمحامٍ وقت إقامته في دمشق، وحين وصل إلى مصر تنقل بين مهن متواضعة لم توفرّ له ولأسرته مقدار ما يعينهم على حياة آدميّة، وفي ظل شحّ المساعدات التي تقدمّها الهيئات الإغاثية والإنسانيّة المصرية ونفاذ كثير من مواردها الماليّة، مع الأمد الطويل للثورة السوريّة. توقفت المساعدات عن آلاف الأسر السوريّة، والفلسطينيّة السوريّة التي لم تدخل ضمن مظلّة المساعدات لأسباب بيروقراطيّة وسياسيّة.

قابلت عبد الجبار قبل ثلاثة أشهر ضمن أنشطة متعددة لدعم اللاجئين الفلسطينيين السوريين في مصر وتسليط الضوء على قضيّتهم. في لقائنا الأخير قبل أسبوعين في محاولة من محاولات عديدة جرت في الأشهر الماضية، للبحث عن وضع قانونيّ لإقامته وغيره من آلاف اللاجئين في مصر، قابلنا مسؤولاً كبيرًا في جامعة الدول العربيّة مع وفدٍ من اللاجئين ووعد بالنظر في قضيّتهم.

أخبرني عبد الجبار يومها، أن حياته تتغيّر من سيء لأسوأ في الأسابيع الماضية ومثله مئات الأسر من اللاجئين، وأنّ ما تبقّى مع أسرته هو ذهب زوجته الذي سيبيعه اليوم لتعيش أسرته أسابيع أخرى وليشتري تذكرة إلى أيّ دولة في آسيا بحثًا عن عمل يجلب منه مالًا يُساعد الأسرة على أن توفرّ لأبنائها طعاما وسكنًا على الأقل.

فكّرت لساعات في ما قاله عبد الجبار، ولم أعتقد أنه سيسافر بل سيصبر على الحال الذي يعيشه. وانتهى موعدنا ومضى كلٌ في حال سبيله.

قبل ثلاثة أيام، وجدت رقمًا لا أعرفه يتصلّ عليّ، رغم أنني لا أرد من زمنٍ على أرقام لا أعرفها أو لا يُظهر برنامج -ترو كولر- من صاحبها، إلا أن إلحاح المتصلّ استفزني فإذا هو الأخ الأصغر لعبد الجبار، يقول: عبد الجبار في مطار القاهرة، ومكتب الأمن الوطني قرّر ترحيله إلى دمشق، وهو مطلوب لدى المخابرات الجويّة في سوريا مما يعني اعتقاله وقتله بعد وصوله.

سافر عبد الجبار من مطار القاهرة لتايلند، ووقف ترانزيت في الدوحة، في مطار الدوحة قال له المسؤولون أنّ اللاجيء الفارّ من سوريا، لا تستضيفه سوى أربع دول: مصر وتركيا والأردن ولبنان. وعليه فيجب ترحيله إلى مطار القاهرة من حيث أتى.

في القاهرة، قرارٌ ما أصدره موظف ما في الدولة المصرية يقضي بأن يُرحلّ أي لاجيء لا يأتي من مطار دمشق، أو يأتي منفردًا وعمره أقل من أربعين عاما. وفي حالة عبد الجبار فعمره أقل من أربعين عاما وجاء بمفرده كما أنّه جاء من مطار الدوحة. فالقرار: يُرحلّ إلى دمشق في أوّل طائرة.

لأولّ مرّة أتعرض لموقف كهذا، ولتجربة صعبة كالتي مررت بها مع عبد الجبار، لا تعرف أسرته مصريين في القاهرة غيري ويعولون على ما سأقوم به من جهد، وانقطعت كل ما أعرفه من اتصالات كثيرة مع الرئاسة من وقت الإعلان الدستوري وحتى الآن، ولا أعرف أحدهم في جهاز أمن الدولة حتى أتحدث معه.

فكّرت لدقائق، وتذكرت حالتين، الأولى لأبو علاء -حمزة أحمد أبو جعبص- الذي رحلّ جهاز أمن الدولة ابنيه لمطار دمشق قبل أشهر من الآن، احتجزا في المطار لثلاثة أيّام مع وعود بالسماح لهما بدخول مصر، وفي اليوم الثالث كان الأمن الوطني يقودان الشابيّن عنوة وأدُخلا الطائرة ليصلا إلى دمشق وينقطع الاتصال بهما من وقت وصولهما وحتى الآن. والحالة الثانية لأبو سليمان الذي رُحلّ ابنيْه إلى دمشق أيضا، كان في استقبالهما ضبّاط المخابرات الجويّة السوريّة: الأوّل قُتل والثاني انقطع الاتصال به من وقت وصوله وحتى اليوم.

لساعات كان كل ما يشغلني، نظرات الخوف والرعب التي تصيبنا حين نتعرض لحادث على الطريق قد يُودي بحياتنا، أو خوفنا وقلقنا بعد رحيل رفيق أو قريب. أو جزعنا حين نشاهد ما يُصيب السوريين من مذابح في نشرات الأخبار ومقاطع الفيديو في يوتيوب.

ليومين، كلمّت كل من أعرف ممن يستطيع التأثير على جهاز أمن الدولة -الأمن الوطني حاليا- لإيقاف قرار الترحيل، ساعدني في ذلك أن الطلب إنساني ولا يخصّ شأنا مصريّا ولا خلافا سياسيّا.

بين مطار القاهرة ومنزلي في مدينة نصر، قضيت ساعات الهدف منها أنّ يعرف مُحتجزي اللاجيء من جهاز أمن الدولة، أنّ هناك من يسأل عنه أو يهتمّ بأمره.

عصر اليوم الثاني اتصلّ عبد الجبار من هاتف وقال أنّه في طريقه للنيابة للتحقيق معه، أيّ نيابة؟ انقطع الخط ولم أعرف إلى أيّ نيابة توجّه. ساعات واتصال آخر، عبد الجبار في نيابة النزهة وقرار النيابة يقضي بإعادته للمطار وترحيله لدمشق! وهو في الطريق للمطار.

حين عرفت لأوّل مرة أن جهاز الأمن الوطني أمر بترحيله لنيابة النزهة، قلت أن قرار ترحيله أُلغي وأن تحقيقًا روتينيّا سيبدأ معه ينتهي بالإفراج عنه ليعود لأسرته وأطفاله. أكملت مواعيدي لبقيّة اليوم وحين بدأت إحداها وكانت مع حذيفة أبو الفتوح، كلّمني من قال لي أنّ عبد الجبار في طريقه للترحيل من مطار القاهرة إلى دمشق.

في مطار القاهرة، اتصلت وحذيفة بكل من نعرف، من رأس السلطة السياسيّة لرأس السلطة الإخوانيّة نطلب تدخلّا في قضيّة الرجل لمنع ترحيله أو في اسوأ الظروف ترحيله إلى لبنان. وما بين انشغال خطوط المسؤولين لردود السكرتاريّة بلسان البيروقراطيّة المصريّة، لتململ المؤسسات الدوليّة كالأونروا التي طلبت أن يبدأ اليوم الجديد حتى يتحركوا في التواصل مع الخارجيّة، للسفارة الفلسطينيّة التي رفض سفيرها التدخلّ في قضيّة أحد مواطنيه، لأن الأخير شارك في وقفة احتجاجيّة أمام السفارة الفلسطينيّة قبل أشهر للتنديد بموقف السلطة الفلسطينية من قضيتهم. لبرود أعصاب من هاتفناه من حماس وفحوى حديثه أننا لا نعرف اللاجيء فلا نستطيع التدخلّ من أجله لدي سلطات الأمن المصريّة.

في الساعات الأولى من صباح اليوم الثالث، كنت وحذيفة في مطار القاهرة الدولي، نبحث عن أماكن احتجاز اللاجئين في مكتب جهاز أمن الدولة في المطار، وصلنا إلى صالة السفر 1 في المطار القديم، لنفاجيء بوجود مكتبين لجهاز أمن الدولة، ليس في أحدهما عبد الجبار. وقفنا أمام أحدهم نسأل عن مكتب الأمن الوطني ليردّ علينا المجنّد المُكلّف بالحراسة أن لا وجود هنا لمكاتب تتبع الأمن الوطني، ثم لحظات ويتدخل أمين شرطة ليرحبّ بنا. طُلب منّا أن نذهب إلى صالة الوصول 1 في المطار القديم، وعرفنا بوجود مقرّ ثالث لجهاز أمن الدولة لا نستطيع دخوله سوى بتصريح لا يُعطى بسهولة لطالبيه.

انتظرنا لساعات أمام صالة الوصول 1 في المطار القديم، نُكمل ما بدأنا من اتصالات قبل ساعات، ومن نتصلّ بهم يعدون بالمساعدة والتحرك العاجل لإنقاذ حياة الرجل، وبين دقيقة وأخرى نتصل بالرقم الداخليّ للأمن الوطني في مطار القاهرة ليخبرنا من يردّ أن اللاجيء الفلسطيني السوري لا يزال موجودًا، في المكالمة الرابعة كان صوت عبد الجبار يقول لنا أنّه في طريقه للخروج فلننتظره.

لم أصدق إلا حين رأيته يخرج من صالة الوصول، طمأنت أهله وأوصلناه إلى حيث استطاع الوصول لمدينة السادس من أكتوبر حيث ينتظره أهله.

لساعات فكّرت في عشرات آخرين وصلوا إلى مطار القاهرة فرارًا من مذابح الأسد، قابلهم جنود ومسؤولو جهاز أمن الدولة البواسل، بإجراءات بسيطة وأوامر لا تُردّ أعادوا ترحيلهم إلى دمشق، فمنهم من وصل فاعتقل فقُتل، ومنهم من ساقه حظٌ أفضل فاعتقل ولم يُقتل.

فكّرت لم لا تُبادر الخارجيّة المصريّة، أو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أو المنظمات الحقوقيّة، أو المفوضيّة العليا لللاجئين بتوفير مكتب استقبال في مطار القاهرة، لكي يعمل على استقبال اللاجئين وتوفير المساعدة الأوليّة لهم، وللضغط على الأجهزة الأمنيّة التي لا تُراعي كونهم وصلوا من مناطق كوارث إنسانيّة.

فكرت في تصريحات مرسي بالدعم الكلامي لثورة الشعب السوري وقت زيارته لإيران، وتراجعه حين وصف الثورة السوريّة بأنها أزمة حين زار روسيا، تذكرت ما قاله في خطاباته الانتخابيّة بين حشود المصريين والإخوان الذي أخلف وعوده لهم الواحد تلو الآخر: سندعم ثورة سوريا، سنحارب الفساد، سنعيد محاكمة قتلة الشهداء، سنحقق العدالة الاجتماعية وغيرها كثير.

خذل الرئيس مرسي الشعب السوري، وتراجعت جماعة الإخوان عن دعم الثورة، ولم تُولي الأحزاب المصريّة أهميّةً للثورة السوريّة وهي التي تقضي بخارطة جديدة للمنطقة، وانشغلت المؤسسات الأهليّة بتوفير دعم تقليدي للاجئين حتى شحّت مواردها الماديّة، واستمرّ السوريون في ثورتهم لا يُبالون بتخاذل أو خيانة. كُلّ همّهم أن يُنجحوا ثورتهم ويُسطّروا تاريخًا حين يقرأه العرب بعد انتصار الثورة، سيدركون مدى فداحة ما حصل من جرائم حرب، ويُدركون أيضًا مدى فداحة جرائم الصمت والخذلان والخيانة التي عاشوها برغبتهم.

شكر واجب، لمن فتح ملفّ اللاجئين الفلسطينيين السوريين في مصر: حنين حسن وأحمد البيقاوي وحذيفة أبو الفتوح. وشكرًا لمن ساعد بالضغط على جهاز الأمن الوطني: عبد المنعم عبد المقصود، ونغم نبيل عمر. وآخرون أشكرهم عملوا في صمت ولا أعرفهم.

السلام ختام، والثورة مُنتصرة، والمسؤوليّة مشتركة.