شبكة قدس الإخبارية

أنفاق المقاومة في غزة… عوامل البقاء أمام منطقة مصر العازلة وجدار “إسرائيل”

مركز صفد للبحوث السياسية

لطالما ظلت الأنفاق الممتدة داخل الحدود البرية بين قطاع غزة والأراضي المصرية وبين القطاع والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948 تشكل كابوسا مؤرقا لقوى الجيشين المصري والاحتلال الإسرائيلي على مدار العقد الماضي.

وعبر سنوات طويلة سعى كلا الطرفين لإيجاد الحلول الجذرية لهذه الوسيلة التي ابتدعها أهالي قطاع غزة لدعم صمود الناس المحاصرين من قبل الاحتلال الإسرائيلي من جهة ومصر من جهة أخرى، ورفد المقاومة بالسلاح والعتاد لتنفيذ العمليات الفدائية في قلب عمق جيش الاحتلال الإسرائيلي.

وبقيت هذه الأنفاق قناة أساسية في توفير ضروريات العيش للشعب الفلسطيني المحاصر من سلع ومواد بناء ووقود، ومقاومته بشتى أنواع الأسلحة والذخائر عبر شبكة ممتدة داخل الحدود الجنوبية الغربية للقطاع مع مدينة رفح المصرية وصولا إلى شبه جزيرة سيناء.

مصر اعتبرت هذه الأنفاق اختراقا للأمنها القومي، فعمدت بكل قوتها منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك وحتى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى محاربة هذه الأنفاق، فشن حملة موسعة على طول الحدود المصرية مع قطاع غزة لتدمير هذه الأنفاق ومنع عمليات تهريب السلع للقطاع فتمكنت من تدمير العشرات من هذه الأنفاق في حين فشلت في الوصول إلى بعضها لتبقى تلك الأنفاق هاجسا يلاحق الأجهزة الأمنية المصرية.

في العام 2014 أصدرت السلطات المصرية قرارا بالشروع في تنفيذ خطة شاملة لمحاربة هذه الأنفاق، وتضمن هذه الخطة خطة عمل تستغرق عدة سنين، دون تحديد جدول زمني لها، وشرعت بإخلاء منطقة رفح الحدودية للتمهيد لتنفيذ هالشروع الهادف لتحويل الشق المصري من المدينة إلى منطقة عازلة تخضع بأكملها لسيطرة الجيش.

من جهة الأراضي المحتلة منذ عام 1948، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي نهاية العام 2015 عن طرحه مشروعا لإقامة جدار خرساني أرضي على طول الحدود مع قطاع غزة، لمحاربة أنفاق المقاومة، وقد مر هذا المشروع بالعديد من السجالات بين التكلفة المادية المرتفعة لهذا المشروع بالمقارنة مع الميزانية المرصودة لجيش الاحتلال وبين مدى جدوى هذا المشروع في إنهاء سلاح المقاومة الفلسطينية الإستراتيجي.

استمرت هذه السجالات داخل أروقة جيش وحكومة الاحتلال الإسرائيلي عدة سنوات حتى أقرت ميزانية جيش الاحتلال للعالم 2018 وكان من ضمن الميزانية رصد مبلغ 2 مليار شيقل لصالح أعمال بناء الجدار الأرضي على طول الحدود مع غزة، وبالفعل أدخل هذا المشروع حيز التنفيذ مطلع العام 2018 ولا تزال أعمال البناء مستمرة ويتوقع استمرارها حتى نهاية 2019.

ولتحقيق هذه الغاية، لا يزال الجانبان المصري والإسرائيلي، حريصين على المحافظة على حالة الهدوء أو “اللاحرب” القائمة في قطاع غزة، لضمان عدم المساس بعمليات الطرفين على الحدود والمحافظة على استمراريتها من أجل الوصول الانتهاء من مشروعيهما.

رفح المصرية: الأهمية الإستراتيجية

تعتبر مدينة رفح المصرية وهي واحدةٌ من المدن التي تقع على الحافة الشرقيّة من حدود مصر، المدينة الأقرب إلى الحدود الفلسطينيّة، وقد لعبت مدينة رفح وأهلها دوراً كبيراً بالحروب بين العرب والاحتلال الإسرائيلي على مر السنين، وما زالت تحافظ على أهمية موقعها كحلقة وصلٍ ما بين مصر وفلسطين المحتلة إلى يومنا هذا.(1)

كما ساهمت المدينة التي تقع على الحافة الشمالية الشرقية لشبه جزيرة سيناء، في بناء حضارة مصر على مرّ العصور، فالمنطقة بأكملها بما فيها مدينة رفح كانت تتلقى الصدمة الأولى لأيّ غزوٍ تتعرض له مصر، وكانت هذه المنطقة هي حلقة الوصل البريّة التي تربط بين قارة آسيا وقارة أفريقيا، ومما زاد من أهميّة المدينة مرور خطّ سكة الحديد الذي يصل بين الموصل في العراق إلى حيفا في فلسطين المحتلة ومنها إلى القاهرة.(1)

في العام 2015 بلغ عدد سكان المدينة 30.000 نسمةٍ تقريباً، اعتمدوا بالأساس على الزراعة، حيث كانت المدينة تساهم مساهمة كبيرة في إمداد السوق المصري بمختلف أنواع الفواكه والمحاصيل المختلفة، إذ تنتشر في المدينة بساتين الفاكهة التي تعتمد على مياه الري بالإضافة لحقول القمح، وغيرها من المحاصيل الزراعية.(1)

تهجير أهالي رفح المصرية.. الأهداف والمخاطر

مع نهاية العام 2016 بدأت معالم الجغرافية الطبيعية والسياسية للمدينة بالتغير، حيث دخلت في حسابات خاصة لدى النظام الحاكم في مصر، فكونها تشكل حلقة الوصل بين قطاع غزة والأراضي المصرية ومنها إلى القبائل البدوية غير الخاضعة بالكامل لسلطة الحكم في مصر، أصبحت هذه المنطقة تشكل هاجسا لساسة مصر وقيادة الجيش المصري، خصوصا في أعقاب استلام حماس مقاليد الحكم في القطاع وبروز سلاح الأنفاق وحدوث مئات عمليات التهريب عبر تلك الأنفاق التي تخترق الحدود المصرية.

هذا السلاح دفع النظام المصري حينها لتبني إستراتيجية جديدة في التعامل مع قطاع غزة، قريبة إلى حد كبير مع الإستراتيجية التي تتبعها سلطات الاحتلال، ففرضت هي الأخرى حصارا مشددا على قطاع غزة، ونشرت المزيد من قواتها على طول حدود المدينة في محاولة لمنع عمليات التهريب، والتي كان السلاح أحد أهم بضائعها.

في نهاية العام 2016، أعلنت السلطات المصرية عن تبنيها مشروعا أمنيا لإقامة منطقة عازلة في المنطقة الحدودية الفاصلة بين أراضيها وقطاع غزة من الجهة الشمالية الشرقية من سيناء، والهدف قطع الإمداد العسكري الذي كانت توفره عشرات الأنفاق الواصلة بين شقي مدينة رفح المصري والفلسطيني.

وفي مطلع العام 2017 أعلن الجيش المصري عن انتهائه من وضع اللمسات الأخيرة على الخطة الإستراتيجية التي تبناها، وحدد موعدا للشروع في إنشاء المنطقة العازلة والتي تقوم بالأساس على إخلاء المنطقة المصرية من ساكنيها، وتهجير سكان الشق المصري من رفح بالكامل من منازلهم وأراضيهم، وبالفعل فقد شرع الجيش المصري بعمليات التهجير القسري بشكل فعلي مطلع العام 2017.(2)

بدأت قوات الجيش بزج المزيد من الآليات والجرافات داخل المناطق المخلاة لتشرع بعمليات هدم واسعة لعشرات المنازل وتسويتها بالأرض وفتح قنوات كبيرة للمياه عبر المدينة انطلاقا من البحر وصولا إلى الحدود لإغراق المنطقة الحدودية وبالتالي تدمير عشرات الأنفاق الممتدة على طول الحدود.(2)

شملت عملية التهجير في النصف الأول من العام الماضي 2017 ما مساحته 13.5 كيلو متر مربع من مدينة رفح على المسافة الممتدة من ساحل البحر وحتى معبر كرم أبو سالم بعمق يصل لأكثر من 500 متر.(2)

السلطات المصرية حرصت على منع أية وسائل إعلام من دخول المنطقة وحظرت النشر أو الحديث حول تفاصيل ما يجري في الشق المصري من مدينة رفح طيلة 6 شهور متعاقبة، لكن تقرير صادر عن منظمة حقوق الإنسان الدولية “هيومن رايتس ووتش” كشف عن مجموعة صور أقمار اصطناعية تم التقاطها على مدار الفترة الممتدة من 15 كانون الثاني/ يناير إلى 14 نيسان/ أبريل من العام الجاري 2017، انتشار عمليات هدم للمنازل في عدة قرى وبلدات في شمال سيناء، منها 3,600 بناية، وجرّف مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية في مساحة 12 كيلومتر على امتداد الحدود مع غزة، فضلا عن جيوب صغيرة من الهدم لأكثر من 100 بناية شماليّ مطار العريش، الذي يقع جنوب المدينة مباشرة، ويعتبر إجمالي عدد البنايات المهدومة إلى الآن في عام 2018 هو الأكبر منذ أمرت الحكومة بإخلاء سكان منطقة رفح العازلة، ليصل عدد القرى المهجرة والتابعة لمحافظة شمال سيناء لأكثر من 20 قرية لصالح المنطقة العازلة.(2)

ولاقت عمليات التهجير والهدم مقاومة كبيرة من قبل سكان المدينة الذين حاولوا بشتى الطرق تحدي قرارات التهجير بالقوة ووقف عمليات الهدم لمنازلهم وتدمير مزارعهم التي كانت مصدر رزقهم الوحيد، وبحسب تقرير صادر عن “منظمة سيناء لحقوق الإنسان” فقد أسفرت المواجهات في النصف الأول من العام 2017، عن مقتل 203 مدنيين، بينهم 17 امرأة و23 طفلاً، وإصابة 195 آخرين.(3)

تطور مفاجئ

في مطلع تموز من العام 2017 حدث تطور دراماتيكي على مجريات تنفيذ الخطة الأمنية المعلنة، حيث قررت السلطات المصرية توسيع عرض المنطقة العازلة لتصل إلى أكثر من 2500 متر ما يعني جرف منازل مدينة رفح المصرية بالكامل، وبدون سابق إنذار فشرعت قوات الجيش بتنفيذ حملة جديدة، ولكن هذه المرة مركبة، لتهجير عشرات القرى الواقعة على أطراف المدينة تمهيدا لهدمها كقرية الماسورة التي تعتبر حد رفح الجنوبي، وتبعد أكثر من ثلاثة كيلومترات عن الحدود مع قطاع غزة.(3)

ومع حلول شتاء العام 2017 أصبحت ما نسبته 80% مدينة رفح المصرية منطقة خالية من السكان والمنازل، وتخضع لسيطرة الجيش الذي نشر عشرات الجنود من قواته في أركانها وشرع بتنفيذ عمليات تمشيط واسعة بحثا عن الأنفاق المتوزعة في أرجائها.(3)

في مطلع العام 2018 كشفت مصادر حقوقية مصرية عن مخطط جديد للسلطات المصرية يقضي بتوسيع المنطقة المستهدفة لتشمل جميع ضواحي مدينة رفح وصولا إلى مدينة الشيخ زويد، لتتحول المنطقة بأكملها إلى منطقة عازلة، الأمر الذي وضع أكثر من 4000 آلاف منزل تحت تهديد الهدم، وبالفعل شرعت السلطات المصرية بتنفيذ هذا المخطط دون سابق إنذار وكشفت صور الأقمار الصناعية حجم الدمار الذي لحق بمنازل المدينة بشكل شامل، والمقصد قطع الحدود المصرية بالكامل من الشمال حتى الجنوب مع قطاع غزة وتحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة، لمسافة تصل إلى أكثر من 45 كيلومتر.(4)

مخطط دولي بتنفيذ مصري

أمام هذا الواقع، لا يمكن إنكار حقيقة أن هذا المشروع ذو بعد سياسي، فبالقياس على التطورات المحلية والإقليمية، أصبح واضحا ارتباط هذا المشروع بالصفقة الأمريكية التي يجري الترويج لها عالميا وإقليميا، فالهدف البادي من هذا المشروع هو القضاء على شبكات الأنفاق التي كانت منتشرة على طول الحدود بين مصر وقطاع غزة وتشديد الحصار على المقاومة الفلسطينية في غزة، إلى جانب ارتباط هذا المخطط بما يسمى اليوم “صفقة القرن” الأمريكية التي بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بتنفيذ أول مشاريعها بإعلان مدينة القدس المحتلة عاصمة خالصة لكيان الاحتلال.(5)

هذا الالتزام المصري بتنفيذ المشروع بهذه السرعة نابع من التزامات مصرية مرتبطة باتفاقيات مختلفة مع الاحتلال الإسرائيلي أهمها اتفاقية “كامب ديفيد”، واتفاقية السلام، والتي تشمل ملاحق أمنية تقسم من خلالها سيناء إلى مناطق (A.B.C) وحتى السلطات المصرية يمنع عليها إجراء أية أعمال عسكرية متقدمة من قبل السلطات المصرية، والأسلحة الموجودة في هذه المنقطة دبابات ومدفعيات خفيفة، وحوالي 40 ألف جندي، هذه المنقطة (A)، فيما بعد على بعد 50 كيلو أكثر ما تمتلكه هي قوات قوامها 30 ألف جندي معززين بمعدات خفيفة، وهذه المنطقة (B)، وما بين مصر والحدود مع الاحتلال الإسرائيلي المنطقة © مجموعة شرطية لا تعدو ال800 عنصر.(5)

مصر ملتزمة بمنع تزايد قوة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، من خلال تنفيذها بنود هذه الاتفاقات، وبالتالي طلب منها منع عمليات تهريب السلاح عبر عشرات الأنفاق الممتدة بين الحدود والتي كانت إحدى مصادر تهريب السلاح للمقاومة عبر سنوات الحصار الممتدة.(5)

ورغم هذه الإجراءات المشددة وأمام كل ما نفذته السلطات المصرية حتى اليوم من عمليات استهدفت حتى سكان مدينة رفح المصرية بالقتل والتهجير والتدمير، إلا أن عمليات رفد المقاومة بالسلاح والمواد الأولية لتصنيع الصواريخ والمتفجرات لا تزال مستمرة عبر الحدود، وهناك قرائن تدعم هذا الواقع، أهمها:

  • أن المقاومة لم تكن تعتمد اعتمادا كليا على تلك الأنفاق في تهريب ما يلزمها من أسلحة ومواد أولية تدخل في الصناعات العسكرية، بل كان بعض عمليات التهريب تجري من فوق الأرض.(5)
  • وجود مصالح مشتركة مع بعض المسؤولين المصريين في منطقة سيناء وخصوصا المسؤولين العسكريين، وبدعم من رؤساء القبائل البدوية في تلك المنطقة، والذين كانوا ولا زالوا يغضون الطرف عن عشرات عمليات التهريب المرتبطة بتجارة السلاح مع قطاع غزة.(5)
  • الفساد المالي والإداري الذي تعاني منه المؤسسة الرسمية المصرية، أوجدت حالة من النقمة لدى سكان تلك المناطق المهمشة والذين يعانون من انهيار مستويات المعيشة والبطالة والفقر المدقع، والظروف الاقتصادية التي يعانون منها نتيجة ارتباط تلك المناطق باتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي التي تمنعهم استثمار أراضيهم وتشغيلها، وبالتالي هذه الظروف أفقدت الدولة المصرية السيطرة المطلقة على تلك المناطق، ما يصعب عليها مهمة إنهاء عمليات التهريب.(5)
  • اتجاه المقاومة الفلسطينية، بحكم الخبرة العسكرية المكتسبة من سوات المواجهة بالإضافة إلى الخبرات المكتسبة عبر ابتعاث عشرات العناصر للتعلم في الخارج والتدرب على القتال والتصنيع العسكري، إلى الاعتماد على نفسها في التسلح وتطوير قدراتها العسكرية وبناء المصانع السرية لتصنيع المواد العسكرية والأسلحة وتطوير الترسانة الصاروخية.(5)

مع هذه الوقائع على الأرض، لا يمكن التسليم بأن ما تقوم به السلطات المصرية على الحدود مع رفح هي بمثابة نهاية المطاف لعمليات التسلح التي تجريها المقاومة وبالتالي تشكيل خطر على استمراريتها ووجودها، والوقائع على الأرض تثبت ذلك، فعلى مدار العدوانات المختلفة على قطاع غزة منذ عام 2008 وحتى العدوان الأخير عام 2014 لم تتأثر قوة الردع التي تمتلكها المقاومة بترسانتها العسكرية مختلفة العناصر.(5)

أضف إلى ذلك، ثبوت صدقية ما يصدر عن المقاومة الفلسطينية في غزة من تصريحات حول ترسانتها العسكرية وقدراتها على الصمود في وجه الاحتلال في أي عدوان محتمل، وامتلاكها عشرات أضعاف القدرة العسكرية التي كانت تمتلكها عشية العدوان الإسرائيلي عام 2014.(5)

جدار الاحتلال الأرضي

على الجانب الآخر من حدود غزة، لا يزال كابوس الأنفاق الهجومية العابرة للحدود يراود سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمستوياتها المختلفة السياسية والعسكرية والأمنية، هذا الكابوس الذي غرز أنيابه في عقل الإسرائيليين قبل أجسادهم عقب عملية “الوهم المتبدد” التي نفذها مجموعة من المقاومين الفلسطينيين عام 2006 وأسفرت عن مقتل عدد من جنود الاحتلال وأسر الجندي “جلعاد شاليط” الذي شنت قوات الاحتلال حملات عسكرية واسعة بحثا عنه لكن دون جدوى.

الاستراتيجية الحربية للاحتلال الإسرائيلي عقب عملية أسر الجندي شاليط، انقلبت رأسا على عقب، فقد تمكنت تلك العملية، والتي نفذت بأسلوب إبداعي للمقاومة الفلسطينية لم يسبق لقوات الاحتلال أن عهدته في أي من حروبها داخل وخارج فلسطين المحتلة، من إحداث زلزال أمني داخل مؤسستي الاحتلال الإسرائيلي العسكرية والسياسية، وهزت النظريات العسكرية التي ظل الاحتلال الإسرائيلي يتغنى بها على مدار كل حروبه مع العرب.

بعد العام 2006 أدرك الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الأمنية أنهم باتوا اليوم أمام تحد جديد تفرضه غزة مرة أخرى عليهم، لتحيل وجودهم العسكري في محيط غزة إلى جحيم، يصعب معه التنبؤ بالوقت الذي سيتفاجئ فيه عشرات الجنود المرابطين على طول الحدود بمجموعات المقاومة تخرج لهم من باطن الأرض لتثخن فيهم قتلا وجرحا وأسرا، ليعلن الاحتلال الإسرائيلي استنفار جميع هيئاته ومستوياته لصياغة خطة غير تقليدية لمحاربة هذا السلاح غير المعهود.

جميع الخطط التي وضعها جيش الاحتلال لمواجهة هذا الخطر الداهم، باءت بالفشل، وأمام هذا الفشل الذريع لقوات الاحتلال والتطور المتسارع لهذا السلاح الذي ابتكرته المقاومة الفلسطينية، كان لابد لجيش الاحتلال أن يخرج من النشاطات العسكرية المألوفة إلى نشاطات أكثر ابتكارا وأقل خسائر، فشرع بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة داخل حدود غزة، وشنت قوات الاحتلال وعلى مدار 10 أعوام 4 حروب على غزة استخدمت فيها قوة قتالية مفرطة، وفي كل مرة كانت تخرج بفضيحة، كونها لم تستطع أن تحقق الهدف المركزي من هذه العمليات وهو إصابة أهداف إستراتيجية للمقاومة الفلسطينية خاصة سلاح الأنفاق.

ومع مرور الوقت، وتزايد تهديدات الأنفاق، والتي تجلت أكثر خلال العدوان الأخير على قطاع غزة صيف العام 2014، والذي استعرضت فيه المقاومة الفلسطينية قدراتها العسكرية التحت أرضية ببراعة، وتمكنت من خلالها من تنفيذ العشرات من العمليات النوعية عبر أنفاق متعددة المخارج تخترق الحدود لتصل إلى داخل عمق جيش الاحتلال ومن خلف خطوط قواته المرابطة على الحدود مع غزة، فأدخلت المقاومة جيش الاحتلال في حرب أدمغة شديدة الحرارة استنزفت خلالها قوات الاحتلال كافة السبل العملياتية وحتى التكنولوجية المتطورة لمواجهة هذا الكابوس غير التقليدي.

بتاريخ 16/يونيو من العام 2016 أعلنت وزارة جيش الاحتلال عن نيتها بناء جدار أرضي يمتد إلى ما فوق سطح الأرض، بمحيط قطاع غزة، على عمق 10 أمتار وارتفاع 10 أمتار، ويمتد على طول 65 كيلومتر على طول الحدود، ووضعت له ميزانية تصل إلى نحو ملياري شيقل.

ويعول الاحتلال على هذا الجدار كثيرا في مواجهة الأنفاق الهجومية التي تحفرها المقاومة الفلسطينية، غير أن جيش الاحتلال وبحسب خبراء عسكريين إسرائيليين لن يكون قادرا على اختبار كفاءة هذا الجدار حتى نهاية العام 2019.

سجال بين التكلفة والفائدة المرجوة

على الرغم من الدعاية التي صاحبت عملية إقرار هذا المشروع وعملية الشروع في تنفيذه من قبل المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليتين، والأهمية الكبيرة التي يوليها الاحتلال لهذا الجدار، إلا أن جدال الجدوى والكفاءة لا يزال مشتعلا داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.

فمنذ اليوم الأول لخروج الخطة لحيز العلن، أعلنت ما تسمى “الهيئة القيادية العليا” في جيش الاحتلال عن تحفظها على إنشاء هذا الجدران، مفضلة تنفيذ عمليات مركزة تحت الأرض للبحث عن تلك الأنفاق وتدميرها.

وبحسب تقرير نشره موقع “والا” الإخباري الإسرائيلي بتاريخ 27/9/2016 فإن ضباطا كبارا في جيش الاحتلال قالوا إن مشروعا بتكلفة نحو ملياري شيكل، ولا يعول عليه في القضاء على كابوس الأنفاق بشكل كامل وشامل، لن يحصل على ثقة سكان المستوطنات الجنوبية لحمايتهم من خطر الأنفاق.(6)

كما أوصى ضباط كبار في جيش الاحتلال المستوى السياسي بدراسة تنفيذ عمليات مركزة على الأرض في قطاع غزة للكشف عن الأنفاق وتدميرها، بدلا من إنشاء هذا الجدار؛ كونه لن يوفر خط حماية كافية علاوة عن التكلفة الباهظة له التي تستنزف ميزانية الجيش.(6)

وبتاريخ 20/8/2017 أصدر عالم الجيولوجيا والعقيد في جيش الاحتياط، “يوسي لنغوتسكي”، والذي شغل منصب مستشار رئيس أركان جيش الاحتلال لشؤون الأنفاق تقريرا شكك فيه بنجاعة الجدار الأرضي لتحقيق الهدف الذي وضع من أجله، وقال في تقريره الذي نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية: “حواجز تحت الأرض من أجل منع التسلل عبر أنفاق ليست مجدية سوى لفترة زمنية محدودة وحسب”.(7)

وأضاف، “حتى لو كان التسلل عبر الحاجز الجديد إلى داخل العمق الإسرائيلي ليس سهلا، إلا أن عدوا عنيدا وذكيا مثل حماس سيجد السبيل للقيام بذلك، وبناء حاجز بتكلفة مليارات الشواقل هو فشل يضاف لسلسلة الفشل المتراكمة لجهاز الأمن على مدار 12 عاما في التعامل مع تهديد الأنفاق”.(7)

صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية نقلت هي الأخرى تصريحا لأحد كبار ضباط جيش الاحتلال والذي فضل عدم ذكر اسمه، قال فيه: “إن الجدار الجوفي تحت الأرض، الذي يتم بنائه على طول حول قطاع غزة، لن ينهى تهديد الأنفاق بشكل كامل”.(8)

وأضاف الضابط، “من يعتقد بأن سوراً كهذا، سيمنع الأنفاق بشكل كامل فإنه يتوهم، فلكل نظام دفاعي نقطة ضعف ونقطة اختراق، وعمليات البحث عن الأنفاق على الحدود لن تتوقف حتى بعد استكمال بناء الجدار”.(8)

وتابع: “لا يوجد عائق لا يمكن اختراقه، نحن نعلم الآن أنّه لا يدور الحديث عن أنفاق كالتي نعرفها، ولها نقطة دخول ونقطة خروج في الجهة الثانية، بل عن شبكة كبيرة جداً من الأنفاق التي يقع مدخل كل نفق فيها داخل بيت، أو مصنع أو مؤسسة عامة يفضي إلى أماكن مختلفة، ويربط النفق بأنفاق أخرى، إنّها حقاً شبكة من الأنفاق التي نعرفها في شبكات المترو تحت الأرض في دول مختلفة في العالم”.(8)

جدار بلا قيمة

هذه التصريحات الصادرة عن العديد من الخبراء والضباط الإسرائيليين تثبت على أن الصراع القائم في الوقت الحالي هو صراع إرادات، دون وضع أي اعتبار للإجراءات العسكرية سواء الإسرائيلية أو المصرية، وفي هذا المضمار سيكون التفوق للقوة المهددِة، لأن العقلية التي يدير بها كل من الاحتلال الإسرائيلي ومصر الصراع القائهم هي عقلية تقليدية.(9)

من الممكن أن يكون الجانب المصري والاحتلال الإسرائيلي قد تمكنوا من التقليل من عدد وقدرة هذا سلاح الأنفاق، إلا أنهما لا يستطيعان إنهاءه بشكل أساسي وشامل، وهو ما اعترف به العديد من قادة الجانبين، بأنه ورغم المنطقة الآمنة على حدود رفح والجدار الأرضي على طول الحدود مع الأراضي المحتلة إلا أن هذا السلاح الاستراتيجي بيد المقاومة آخذ في التطور ولن يتمكن الجانبان من تدميره بالكامل.(9)

إذا ما سلمنا بحقيقة تمكن قوات الاحتلال من وضع حد للعديد من الأنفاق الهجومية المخترقة للحدود، وبحقيقة تمكن هذا الجدار من تجميد عمليات توسيع هذه الانفاق وبناء المزيد منها، فإن الجميع يدرك بما فيهم الاحتلال الإسرائيلي بأن المقاومة تملك إلى جانب تلك الأنفاق الهجومية شبكة من الأنفاق الدفاعية والتي لا تقل أهمية عن الأنفاق الهجومية في خلق حالة من الردع المتكامل الأطراف ضد الاحتلال الإسرائيلي تمنعه من ارتكاب أية حماقة بالدخول في مواجهة جديدة مع غزة كونها تجهل بشكل كامل إلى أي حد يمكن أن تصل فاعلية هذه الأنفاق وطبيعة القدرة التي تختبئ داخلها.(9)

هذه الوثائع والقناعات لدى العديد من قيادة الاحتلال والعديد من الخبراء العسكريين، نابعة من عدة عوامل، أهمها:

  • قدرة المقاومة الفلسطينية على الإبداع في خلق أساليب متعددة للمقاومة عبر هذه الأنفاق، وإن كانت غير قادرة على اختراق الحدود.(9)
  • هذه الانفاق جزء من شبكة عملاقة لا يمكن حصرها أو الإتيان عليها بالكامل.(9)
  • الدرس المستفاد من قبل الاحتلال الإسرائيلي على مدار 4 حروب متلاحقة، ففي كل مرة كان الاحتلال يزعم فيها أنه تمكن من تدمير هذا السلاح تخرج المقاومة لتكذب مزاعم الاحتلال، بتنفيذها عمليات نوعية تزلزل أركان الاحتلال.(9)
  • امتلاك المقاومة ترسانة عسكرية متنوعة من صواريخ وقذائف مختلفة وحتى طائرات استطلاع وربما غواصات بحرية، كل ذلك يعطيها أفضلية في خلق حالة من قوة الردع المتكاملة ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب شبكة الأنفاق الدفاعية والجومية.(9)

الاحتلال الإسرائيلي يعي أن المقاومة عندما تتحدث عن قدراتها العسكرية المتقدمة والتي تقول إنها أكثر تطورا من أي وقت مضى، إنما تقول ذلك من موقف قوة، وهو استطاع أن يدرك هذه الحقيقة من خلال الوقائع على الأرض وبحكم تجاربه السابقة مع المقاومة.(9)

خلاصة

  • يجمع الخبراء والمحللون السياسيون على أن المنطقة الآمنة التي تقيمها السلطات المصرية على طول الحدود مع قطاع غزة بمسافة لا تقل عن 30 كيلومتر، لن تستطيع الحد من عمليات التهريب التي ترفد المقاومة بمختلف أنواع الأسلحة والمواد الأولية التي تدخل في تصنيع السلاح، نظرا لوجود وسائل أخرى للتهريب.
  • الجدار الأرضي الذي يقيمه الاحتلال على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة، لن يكون ذا نجاعة عالية في وقف عمليات المقاومة عبر الأنفاق الهجومية التي تخترق الحدود، نظرا للتفوق الذي تتمتع به المقاومة في حرب الادمغة الجارية والتي تثبت في كل مرة أنها قادرة على الإبداع والتفوق على إجراءات الاحتلال الإسرائيلي التي تستهدف سلاحها الاستراتيجي.
  • الإجراءات الميدانية المصرية والإسرائيلية وإن كانت قد تمكنت من تقليص عدد الأنفاق الفاعلة التي تستخدمها المقاومة في عمليات التسلح والهجوم، إلا أن الجانبين يدركان أن هذا التقليص لن يمس القدرات العسكرية التي تملكها المقاومة نظرا لتقليص المقاومة اعتمادها على تلك الأنفاق في عمليات الرفد، واتجاهها للتصنيع المحلي، كذلك قدرتها على ابتداع نماذج مختلفة من المقاومة المسلحة بالإضافة إلى المقاومة الشعبية التي لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يكتوي بنيرانهما.
  • الاحتلال الإسرائيلي وعلى الرغم من عملياته المستمرة على طول الحدود والتي تمهد لعمل عسكري محتمل ضد قطاع غزة، إلا أنه اليوم أكثر ميلا إلى الحل السياسي مع المقاومة الفلسطينية أكثر من الحل العسكري، نظرا لقناعاته بقدرات المقاومة العسكرية.
  • إن استمرار المقاومة الفلسطينية بكافة تشكيلاتها في حفر الأنفاق الهجومية على طول المناطق رغم استمرار أعمال بناء الجدار الأرضي من قبل قوات الاحتلال، يثبت حقيقة لا لبس فيها بأن عمليات تطوير هذا السلاح الإستراتيجي في يد المقاومة لا تزال مستمرة للتغلب على هذه العقبات التي يصنعها الاحتلال وأدواته.