شبكة قدس الإخبارية

مفضي أبو جلدة.. تبع خطى والده وما تاه

شذى حمّاد

نابلس – خاص قدس الإخبارية: على مدخل إحدى مغر قرية طمون شمال نابلس، أحاطت عنقه بذراعيها وتشبثت به بكل قواها، وانهالت دموعها على كتفيه، فرغم أنها ترفض أن يكون هذا اللقاء الأخير، إلا أن إحساساً مخيفاً انتابها في تلك اللحظات، فلا شيء يوحي لها بالطمأنينة.

كانت الوحيدة التي تعرف سره الذي أخفاه عن المحيطين من العائلة والأصدقاء، الذين كانوا يبررون غيابه بعمله بالأرض التي استأجرها بغرض الزراعة على ضفاف نهر الأردن، والتي كان ينقل لهم في كل مرة ما يزرعه فيها من بندورة وفجل وغيرها من الخضار.

التاسع من أيلول 1969، خطف مفضي أحمد محمود أبو جلدة نفسه في زيارة عاجلة إلى منزله حيث زوجته ووالدته وأبنائه الستة، كاشفاً لأسرته أن الاحتلال بدأ بتتبعه وملاحقته، ليتوجه إلى إحدى مغر قرية طمون، حيث قرر أن يقضي عدة ساعات قبل حلول المساء الذي سيختبىء في سواده عائداً إلى الأردن مرة أخرى.

"كنت ابنته وصديقته ومخبأ أسراره..كانت علاقتنا تتجاوز علاقة الأب والابنة، فقد كنت الوحيدة التي تعرف أسراره والتي أهمها ما يقوم به من مهام مع الفدائيين"، تروي حمدة أبو جلدة ابنة مفضي، والتي كانت تبلغ من عمرها حينها ( 15 عاماً).

وتضيف لـ قدس الإخبارية، "في تلك الجولة كان قد عاد من الأردن وبرفقته 36 فدائياً تمكن من إرسال بعضهم إلى جنين، ووزع البعض الآخر في المناطق الشمالية"، مبينة أن مهمته الأساسية تركزت آنذاك بنقل الفدائيين والأسلحة من الأردن إلى فلسطين المحتلة.

دفع مفضي ابنته أمامه وقد أبعدها عن صدره حيث التصقت به، وانهارت باكية خوفاً على والدها الذي بات مطارداً ومطلوباً لقوات الاحتلال التي تحاول الوصول إليه، "غضب عندما رأى دموعي.. دفعني أمامه وصرخ بي بعد أن رفع سلاحه: إذا لم تتوقف عن البكاء الآن، سأطلق النار على نفسي".

بدلة ذات لون بني فاتح "كاكي" كان يرتديها أبو جلدة في ذلك اليوم، وقد أضاف لبنطاله جيبتين تبدأ من خاصرته وتنتهي إلى أسفل ركبتيه، جيبتان خصصهما مفضي لوضع ذخيرته، تقول حمدة، "كان يضع فيها مشطين من الرصاص ومجموعة من القنابل اليدوية فيما كان يحمل كلاشنكوف على ظهره".

تحمل حمدة صورة مطبوعة بالأسود والأبيض لوجه والدها الشهيد بجانبه صورة للقنبلة اليدوية التي تذكرها جيداً، والتي كان يتمسك بها أثناء وداعه إياها خوفاً من اقتحام مفاجىء لجنود الاحتلال، لينصرف ملوحاً لطفلته وزوجته، "سأذهب إلى الأردن، وعندما تستقر أموري سأرسل لكم حتى تتبعوني إلى هناك"، كانت آخر كلمات مفضي لابنته، محاولاً تهدئتها ومدها الأمل بعودته.

بعد عدة ساعات من انسحاب أبو جلدة من قريته طمون باتجاه الأردن، وقع بكمين لجيش الاحتلال، واشتبك وحيداً معهم بسلاحه الرشاش والقنابل اليدوية التي يحملها، حتى ارتقى شهيداً، بعد أن أصاب وقتل عدداً من جنود الاحتلال.

مفضي أبو جلدة، كان أحد أوائل الكوادر العسكرية والتنظيمية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع بداية تأسيسها، وقد انخرط بالنضال منذ عام 1948، كما التحق بالحرب الثلاثية على مصر عام 1953، قبل أن ينضم للجيش الأردني الذي كان أحد جنوده حتى عام 1962، إذ سافر في ذاك العام إلى ألمانيا حيث مكث ثلاث سنوات تخللها تلقيه تدريبات عسكرية، ليعود ويلتحق بالعمل الفدائي ويقوم بمهام نقل الفدائيين والأسلحة من الأردن إلى فلسطين وتشكيل الخلايا العسكرية.

تقول حمدة، "بنظر الناس المحيطين كان والدي مجرد مزارع بسيط.. إلا أنه تخفى بذلك ليقوم بمهامه العسكرية بسهولة، وقد اتخذ من عمله على ضفاف نهر الأردن ستار لعمله الفدائي ونقل الفدائيين".

مفضي ورث نضاله عن والده الشهيد أحمد محمود أبو جلدة، أحد الشخصيات التاريخية الفلسطينية الشهيرة، والذي تمكن من تشكيل خلية ثورية برفقة صاحبه صالح العرميط وبدعم من الفلاحيين الفلسطينيين وقد نفذا مجموعة من العمليات الفدائية على طريق حيفا – مرج بن عامر، والذي أطلق عليه البريطانيون اسم "طريق الحرامية" جراء ما تلقوه من ضربات في ذلك الطريق على يد أبو جلدة والعرميط، الذين تمكنوا من قتل أعداداً من القوات البريطانية والاستيلاء على أسلحتهم.

وقد وقع الثائران أحمد محمود أبو جلدة وصالح العرميط في كمين نصبته لهم القوات البريطانية، بعد محاصرة مغارة اختبئوا فيها، واقتيدا ومن معهم إلى سجن المسكوبية في مدينة القدس المحتلة، حيث أصدر الانتداب البريطاني حكما بالإعدام بحقهما، وذلك حسبما جاء في مذكرات الثائر الفلسطيني نجاتي صدقي.

بعد 49 عاماً على استشهاد مفضي، لم يدفن حتى الآن بجوار والده الشهيد أحمد أبو جلدة، إذ ما زال الاحتلال يحتجز جثمانه في مقابر الأرقام المجهولة، ولا تعلم العائلة المصير الذي حل به، حمدة التي تبلغ اليوم عامها الـ 65 وأصبح لديها الآن من الأبناء والأحفاد 25 فرداً، تقول "ما زلنا حتى اليوم نسعى لاستعادة جثمانه، رغم ما مضى على استشهاده من سنوات إلا أننا فور استعادة جثمانه سنقيم له مراسم تشييع تليق به وأكثر، سندفنه كما تمنينا دوماً، في مكان نرتاده والأجيال القادمة دائماً".