شبكة قدس الإخبارية

عيدٌ فيه رائحة "قدس مُعتّقة" وكعك يُغري "ملقط التنقيش"

هديل عطا الله

فلسطين المحتلة- خاص قُدس الإخبارية: في صباح يطول انتظاره كان عيسى القواسمي يترقب بلهفة كل التفاصيل الصغيرة التي ستحدث؛ حين ينطلق بعد صلاة العيد مع الأب والإخوة إلى "باب الأسباط" حيث ساحة الغزالي التي تقام فيها مراسم العيد؛ ليلهو مع رفاقه الصغار على الأراجيح ويركبون الخيل والعربات التي تجرها؛ إضافة إلى استمتاعهم بألعابٍ أخرى؛ وكم تكون ساحرة لحظة استلام "العيدية" المتواضعة من والده؛ ومن ثم تبدأ زيارات الأهل والجيران لبيت العائلة؛ إنه مشهد الطفولة الذي لا يبرح ذاكرته.

عيسى الذي اعتاد أن يوثق بالصور والحكايات ويوميات المقدسيين عبر جولاته التي تشعرنا وكأننا نعيش في حارات القدس؛ حيث يسكن في البلدة القديمة؛ يحكي لنا في سياق هذا التقرير شيئاً عن عيد "المدينة العتيقة".

بوابة السماء شامخة

يقول عيسى القواسمي روائي "المدينة العتيقة"، "قبل احتلال القدس في عام 67 كنت أعيش مع عائلتي بجوار حائط البراق- الجهة الغربية من الأقصى-  حيث الامتداد المُحبب لحي المغاربة "المكان الذي ولدت فيه"؛ ونمَت بين مقاماته روحي، إذ كانت شعائر العيد تبدأ قبل العيد بأيام عبر المدائح الدينية والأهازيج الشعبية والعادات المقدسية المتوارثة في هذه البقعة الطاهرة، فيما تعلو تكبيرات العيد من مآذن الأقصى الأربعة".

ويشير في حديثه لـ"قدس الإخبارية" إلى أن حركة الناس كانت تنشط قبيل صبيحة العيد؛ إذ يوفدون من كل صوب وحدب للتبضع من أسواق القدس القديمة والتي تعد المركز التجاري الحيوي الأول لكل القرى من حولها؛ مضيفاً: "كنا نتذوق أشهى الحلويات المقدسية من الباعة مثل التمرية والمهلبية والبقلاوة والسوس والتمر هندي وقمر الدين".

يبتسم حين يتذكر تلك الأيام: "كانت هذه المظاهر تُشكّل الوجه العام للقدس المحتفلة بالعيد؛ لكن بعد احتلال المدينة اختلف كل شيء بعد أن هدُمت أغلب بيوت "حي المغاربة" وتشرد أهلي إلى خارج السور وفقدنا بيتنا هناك".

ويلمع حب زهرة المدائن في عينيه؛ مستحضراً المزيد: "كانت معاصر القدس القديمة تشهد إقبالًا كبيرًا لشراء السميد والسمسم وبقية اللوازم التي تحتاجها العائلات لخَبز كعك العيد؛ وأذكر أن جدتي علمتني استخدام القالب الخشبي حين كانت تجتمع نسوة الحي في بيت امرأة عند "باب السلسلة"؛ يا لها من مشاهد جميلة؛ يتصدرها الكعك والمعمول على مرّ الزمان باعتبارهما يرمزان للعيد المقدسي".

ويؤكد الكاتب الذي ينظم الكثير من الجولات في المدينة العتيقة لطلبة المدارس لتعريفهم بمعالمهما وثقافتها؛ أن التكافل الاجتماعي في الماضي ميّز المناسبات الدينية في القدس؛ إذ يسارع فيها الميسورون إلى مساعدة المحتاجين والفقراء ولا يتوانون عن تأمين الطعام وملابس العيد لأطفالهم؛ لافتاً إلى أن الأهالي من مدن فلسطين كافة كانوا يتوافدون لإيداع الصدقات وأموال الزكاة داخل صناديق خاصة بالأقصى تُرعى من قبل "الأوقاف".

ويواصل حديثه عن تلك الأجواء الدافئة: "كنا نرى الأهالي أثناء زيارتهم لقبور الشهداء من العرب لا سيما في مقبرتي الرحمة واليوسفية عند باب الأسباط حيث كان الكعك يوزع على القادمين".

(كيف هو حال العيد بعد احتلال القدس؟).. جواب محمّل بالحب قال فيه القواسمي الذي صدرت له عدة روايات: "بقيت القدس شامخة بقداستها؛ متمسكة بكل شعائر العيد الدينية والعادات الاجتماعية التي تميزها عن سائر المدن رغم كل العراقيل والإجراءات من قبل الاحتلال بغية منع المصلين من الوصول للأقصى؛ لكن هيهات هيهات إن القدس بوابتنا إلى السماء".

ويبدو عاشقاً لرائحة الكعك المقدسي التي تنبعث قبيل العيد؛ موضحاً: "حالة من الحياة والبهجة تضفيها أفران القدس التي تخبز الكعك بالسمسم".

ويتضرع الرجل لله أن يحفظ للقدس شبابها ممن يحرصون على أن تبقى مدينتهم في أبهى حلتها؛ عبر مبادرات ينفذونها لتعليق زينة العيد كي تزداد تألقا".

وجوه نساء وصغار لا تغيب عن قلبه؛ يجعلن لعيد القدس نكهة؛ وهنا يرسل أعذب التحيات لامرأة شجاعة: "ما زلت أذكر تلك المرابطة المسنة التي تسكن وحدها قرب الأقصى؛ بعد أن رفضت الملايين مقابل التخلي عن بيتها فكان ردها أن هذا البيت هو لله ثم لبيت المقدس؛ وحتى اللحظة تواجه بالصبر إيذاء المستوطنين لها؛ في يوم عظيم كهذا أعايدها هي وكل الصامدين الرائعين".

مسك خاتمة الحديث كان مع هذا الوصف الساحر لصباح مبارك من صباحات المسجد الأقصى الذي خطه "ضيفنا": "فجر اليوم روقان وربيعي، القمر طالل من فوق القبة والقبة مضوية وبهية؛ وحماماتها لسّة منعوسات؛ والغيمات مستحيات والناس مروحة بعد الصلاة وذِكر هون وقصة هناك؛ واللي بيركض بدو يلحق يشتري الكعكات".

 نتوق للهفة

في أعياد الطهاة الفلسطينيين لا يوجد ما هو أجمل من طقوس إعداد الكعك؛ إنها أيامهم المميزة كما تقول مصورة طعام ذاع صيتها في السنوات الأخيرة؛ إنها الطاهية العاشقة للحلويات فداء حداد التي تقيم في السعودية منذ 13 عامًا؛ فقد كان عيد الفطر الماضي بالنسبة لها مختلفا؛ كونه أول عيد تقضيه في مدينتها الخليل بعد سنوات من الغربة؛ ولحسن حظها إن زيارتها امتدت لعيد الأضحى أيضًا.

تتحدث ببهجة ملحوظة لـ"قدس الإخبارية"، "لم أرَ فرحة أطفالي ودهشتهم من قبل كمثل "العيد" الذي قضوه في وطنهم للمرة الأولى في حياتهم؛ مشاعرهم البريئة هذه انتقلت إليّ وغمرتني بسعادة كبيرة".

وتعود إلى أيام الزمن الجميل؛ تبتسم لها وكأنها تناديها: "كانت أجواء العيد "غير" و "ساق الله ع هديك الأيام"- عبارة دراجة توحي بالحسرة -؛ فما أن تصدح أصوات التكبيرات في الشوارع في تلك الليلة حتى يخرج إليها الناس مستبشرين؛ فيما هاتف البيت يرن باستمرار ليأتي صوت المقربين للمعايدة؛ إذ لم يكن هناك من وسائل للتواصل الاجتماعي؛ أما أمهاتنا كن تحضرّن ضيافة العيد قبل النوم حتى تستقبلن الزوار المهنئين منذ الصباح الباكر".

بكثير من الحب تتذكر لهفتها هي وأخواتها في ليلة العيد وعدم قدرتهم على النوم منتظرين طلوع الصباح من أجل ارتداء الملابس الجديدة؛ تقول فداء: "نستيقظ على رائحة القهوة التي تحضرّها أمي لاستقبال الضيوف؛ أما سعادتنا فلا تتسع الدنيا عندما نحصي المال الذي حصلنا عليه خلال النهار "العيدية".

(لكن ماذا عن بهجة العيد اليوم يا ترى؟)؛ تقول ابنة مدينة الخليل: "اختفت ملامح اللهفة لاستقبال العيد؛ وصارت ليلته عادية؛ ويا للأسف أن كثيرًا من الناس يرونه يوماً كبقية الأيام".

وتؤكد أن مظاهر العيد في الماضي كانت أكثر حضورا بالرغم من بساطتها؛ مضيفة: "أما اليوم ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي؛ بات بعض لديه مغالاة في الاستعراض ومباهاة بتجهيزات العيد والاكتفاء بالخروج للمطاعم و "الكوفي شوب" عوضاً عن زيارات الأرحام".

وتشير إلى أن "العيدية"- مبلغ من المال يُهدى لصلة الرحم- آخذة في الاختفاء بمرور السنوات؛ مبينة السبب: "بالنسبة لنا التزاور يوم العيد يفوق تقديم "العيدية" أهمية؛ ويا للأسف أنه بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية انحصرت زيارات الأقارب في فئة المقتدرين؛ وتناسى الناس أن فرحة العيد تكمن في لقاء الأحبة بالدرجة الأولى".

وتفوح الرائحة كالمسك

ترسم فداء مشهد عائلتها في الماضي على هذا النحو: "لدي 6 أخوات؛ وعددنا الكبير هذا كان يجعل من اجتماعنا لتحضير الكعك أمرًا فاخرًا؛ فيما أجواء الحماس للعمل تشتعل فتتعالى الضحكات وتكثر الأحاديث؛ تكاد أن تكون حقاً من أجمل لحظات حياتي وملأني الحنين لعودة هذه اللمّة الدافئة؛ ذلك أن أمي تشتهر بكعكها المميز؛ وهي لا ترضى إلا بالطريقة التقليدية في إعداده عبر استعمال الملقط لتنقيشه بعيداً عن القوالب الخشبية؛ كانت أمي تخبز كمياتٍ كبيرة حتى تتمكن من إرسال عينات لبعض الأهل والأصدقاء؛ أما إن سألتم عن المدة التي يستغرقها إعداد الكعك فإننا كنا نمضي ساعات طوال خلال اليوم الواحد".

وتلخصّ جمال المشهد بالقول: "لا شك أن رائحة الكعك تجعل رائحة البيت كالمسك؛ ويا سلام على السعادة التي نشعر بها عند الانتهاء من العمل برغم التعب".

وفي سؤالها عن الفارق بين استخدام ملقط التنقيش والقالب؛ تجيب صاحبة الخبرة: "بكل تأكيد يكمن الفرق في اللمسة الشخصية؛ ذلك أننا باستعمال الملقط نشكلّ الكعك وفق ما نريد؛ علماً أن القالب الخشبي أداة جيدة تختصر الوقت وتسهّل المهمة".

فداء التي تزور الخليل لفترة وتستمتع بكل لحظة تمر؛ استعادت شيئاً من سحر هذه الأجواء؛ لتقول: "هذا العيد حضرّنا الكعك أنا وأمي واكتفينا بكمية محدودة؛ وبما أن أخواتي قد تزوجن جميعهن فإننا افتقدنا نكهة "اللمة"؛ أعترف أن إعداد الكعك يبدو سهلاً لكن من تخوض "معمعته" تدرك مقدار المهارة التي يتطلبها".

وتقول فداء إنها بعد زواجها وانتقالها إلى السعودية ظلت لسنوات طويلة تشتريه من السوق؛ إلا أنها بدأت بإعداده في السنوات الأخيرة؛ حتى يعيش أطفالها أجواء العيد كما يجب؛ الذين بدورهم يحاولون الاستمتاع بالتجربة ومشاركتها في "التكعيك".

ولا تتوقف جهود "ضيفتنا" عند هذا الحد؛ بل أنها تستقبل العيد بــ "المقروطة الفلسطينية بالتمر" وخبز العيد؛ مواصلةُ الحديث: "أردت أن أوصل لصغاري رسالة مفادها أن الكعك يرتبط بالعيد؛ وكذلك حرصي على مشاركة متابعي أسرار نجاح الكعك؛ علماً أني في أول مرة تجرأت على إعداده بمفردي استخدمت الدقيق لأنه أسهل مقارنه بالسميد".

وتذكر أن المغتربات الفلسطينيات يعشن حالة شوق دائم؛ لذا تحاولن تعويض الغياب باستحضار روح العيد عبر تجهيز الكعك؛ مبدية أسفها إزاء عدم ميل بعض الصبايا - لا سيما المتزوجات حديثا- لإعداد الكعك في البيت؛ في ظل رفاهية العصر وتوفر "الكعك الجاهز".

يقال إن الكعك بمرور الوقت يصبح طعمه أطيب؛ أما مصورة الطعام توافق هذا الرأي إلى حد ما: "يتوقف الأمر على طريقة تخزينه؛ فبلادنا حارة نوعا ما؛ والسميد "روحه قصيرة" بالتعبير الشائع؛ لذا أنصح بحفظ الكعك في "مرطبانات ضغط" مفرّغة من الهواء؛ على أن توضع في الثلاجة؛ وقبل التقديم بنصف ساعة يُخرج؛ هكذا يبدو طازجاً".

وتذكر أن "وجبة الغداء" يوم عيد الاضحى عادة ما تتأخر؛ لأنها تطبخ من الأضحية وغالبا في البيت الفلسطيني تكون المائدة عامرة بــ "المنسف" أو الدجاج المحشي "الضلعة المحشية"؛ بخلاف عيد الفطر الذي يفضل فيه تناول المأكولات البحرية؛ حسب قولها.

لا لتشويه نكهة التراث

فداء حداد هي عضو في مبادرة "نكهة عربية" والتي تضم مدونين عرب في مجال الطهي؛ يعكف كل منهم على تحضير وصفة شهرية تراثية وفق أصولها المتعارف عليها؛ وتنبه إلى مسألة حساسة في حديثها: "أرفض قطعيا أن أشوّه أي وصفة تراثية؛ على سبيل المثال أقبل أن أعدّ "المسخن" على شكل "رولات"؛ لكن من المستحيل أن أضيف لها الجبن والكريمة؛ لأني بذلك أغير معالم طبق أصيل".

وتزيد على ما سبق بالقول: "الشركات الكبرى تطلب عادة الوصفات العالمية كي تصل إلى أكبر عدد من الثقافات؛ وقد تطلب إحداها أن أغير الوصفة التقليدية لشكل أكتر عصرية؛ وحينها يكون موقفي هو الاعتذار عن تلبية طلب يمس بــ "خط أحمر" عندي".

الحديث عن الطعام- بطبيعة الحال- يجر بعضه بعضاً فهي تبوح لنا أن والدتها تتشبث بالطرق التقليدية في الوصفات؛ ولا تفكر حتى في إجراء أي تغيير طفيف؛ لكن ماذا عساها تفعل مع ابنتها المجددة؛ تضحك فداء لتسرد علينا موقفاً: "هي لا تقتنع بمقترحاتي في أي تغيير إلى أن تتناول من طبقي وحينها أرى الدهشة في عينيها؛ أذكر ذات يوم أنها أرادت طهو "البامية" بطريقة "اليخني"؛ حينها اقترحت أن نستبدلها بــ صينية بامية؛ واعترضت وقتها بشدة؛ وحين صارت المائدة جاهزة وبدأ أبي في تذوقها؛ بلا مبالغة كان في كل لقمة ينظر لي بسرور قائلاً "يسلمو إيديكِ يا بنتي؛ والله بتشهي"؛ أما أمي فقد أحبتها كثيراً".

وبالاطلاع على صور فداء حداد الرائعة للطعام الذي تحرص على أن تطهوه بنفسها؛ سألتها عن "خبز الثوم بالأعشاب"؛ فعلّقت بافتخار: "يفتح الشهية؛ ومين ما ذاقه انغرم فيه؛ أما صورة مشروب "الكركديه" التي تحمل روح الماضي؛ فقد منحتها هذا التوضيح: "كان إعداد الكواليس صعباً نوعا ما؛ وتوزيع الإضاءة كذلك؛ أردت أن يظهر في الخلفية شباك خشبي قديم".

والطريف في الأمر أنها تضحك من اسم صفحتها على "فيس بوك" التي أطلقت عليها " النكهة المالحة" أو اللاذعة؛ فهي في الوقت الذي اختارت هذا الاسم أرادت أن تكون صفحه للطبخ؛ وإذ بها تضم يوماً بعد يوم وصفات كثيرة لأطباق الحلوى؛ ذلك أن إدمانها للحلويات طغى على هذا "الإنجاز الجميل".