شبكة قدس الإخبارية

من حيفا إلى غزّة: أمواج البحر تبكي رزان

قصي حلايقة

متسعٌ من البُعد عن الواقعِ المُعاش، نتصور من خلاله روح الصحفي ياسر مرتجى، شفّافة، بقدر الجمال الذي حملته ابتسامته في الدنيا، تستقبل أرواحاً أخرى نقيّة، ارتقت من غزّة، فاضت من بين أعمدة الدخان، تخطت رصاصاً غاشماً، واجتمعت في مكانٍ عدلٍ لا يعرف الظلم، ولا يحيط بجوانبه القهر، قهرٌ يعيشه المعذبون في غزة، لا مثيل له، ولا شبيه لوجعه، فإن غابت طائرات الاحتلال، لا تغيب فوهات قناصته.

رحلت اليوم الشابة رزان النجار، ابنة  الواحد وعشرين ربيعاً، لم يعد هناك شكٌ إطلاقاً، بأن قتلها كان متعمداً، ولم يعد هناك وجهات نظر، بأن القناص الذي قتلها، يمتلك أوامر محددة، لإعدام عزيمة أي فلسطيني تظهر قصته للعلن، وقد أتقن هذا القاتل، إجرامه بدقة، وباحتراف، قبل أن يعود إلى قاعدته ليحول الوجع إلى قصة بطولة، نعم، فالجندي المتعطش للدم، تُخيّل له نفسيته المريضة، أن إزهاق الأرواح، قصة بطولة، وقِس على ذلك عقليات كثيرة يسكنها الإرهاب، في جيش الإرهاب الذي لا ينفك يقتل ويشرد، ويذبح الأحلام، من الربيع إلى الربيع.

منذ بداية مسيرات "العودة الكبرى"، مرّت أسماء لشهداء أمام أعيننا، حزنا لعبروها إلى عالم الشهداء، لأننا نفتقدهم، لكن الملاحظة الهامة جداً، أن من بين الشهداء نماذج برزت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قصص عطاء وبطولة، وتحدٍ، قصص نشرناها وافتخرنا بأنها لفلسطينيين يُقدمون صورة مشرقة وطاقةً هائلة، ومداداً من الحب والحلم، والإبداع.

تيقظ الاحتلال الغاشم لهذه النماذج، وقرر ضربها في مقتل، فأولاً، قتل الفن، لأن القلب مكان الفن، ولأن القلب مرتبط ٌ بالروح، أصاب قناص الاحتلال الشاب "محمد أبو عمرو " برصاصة في صدره، محمد الذي رسم أحلامه على شاطئ غزة، ترجم جملته المشهورة "أنا راجع" بمجسمات من الرمل، خجلت أمواج البحر من اذابتها، ولم يخجل جيش الإرهاب من اعدام صاحبها.

زاد إصرار "ليبرمان، وايزنكوت"، ونتنياهو، ونفتالي بينيت بعد ذلك على تصفية العطاء، فبعد انتشار صور الشاب الشهيد "إبراهيم أبو ثريا" مبتور القدمين، يزحف بين أزيز الرصاص، يحمل حجراً ومصحفًا في يديه، ويحمل في قلبه عزيمة جبال شامخة، قتله الاحتلال برصاصة في رأسه، في رسالةٍ رمزيةٍ قميئة، وهي قتل الفكر الذي يحمله ابراهيم، لقتل الروح المتحدية للقوة الغاشمة، للذخيرة الحية، للبطش، وللحصار.

كان سهلاً على الاحتلال بعد الدناءة السابقة، أن يقتل الآن صحفياً، ليمنع نقل صورة الشبان المنتفضين على الحدود للعالم، لأن "مسيرات العودة" هي أرقى نموذج للاحتجاج، من شعب مقهور، على دولة فاشية، تمارس العهر العسكري والسياسي بلا شرف، رفع الجندي فوهة بندقيته أمريكية الصنع، ونظر في مرقابها ذو الزجاج المذاب في مصانع إسرائيلية في بلداتنا التي شرد الاحتلال أهلها، وصوبها نحو ياسر، وهو في زيّه الصحفي الكامل، وبكل سلاسة أطلق رصاصةً متفجرة، أسقطت المصور البسّام، صاحب الضحكة التي ما أخطأت يوماً وجهاً نظر إليها، ارتقى ياسر شهيداً، وضجت القلوب على فراقه، بكاه الأطفال الذين رافقوه بلا سبب، كانوا يرافقون الفرح في شوارع غزة التي أسقطت صواريخ الاحتلال بنيتها، وبيوتها، رحل ياسر، وبقيت بنادق الاحتلال.

ولم تكاد تمر الأيام، حتى عزز الاحتلال فكره القذر، فقتل الصحفي أحمد أبو حسين، حاول الأطباء كما ياسر إنقاذ حياته، لكن مرارة الرصاص لم تمهل روحه الشفافة وقتاً أطول، فقد حان وقت الرحيل، وصعدت تلامس أرواح الشهداء، شهداء الحرية التي يأمل ابناء هذا الشعب أن يعانقوها.

اليوم، ارتقت رزان النجار، ممرضة تمثل أعلى درجات الانسانية، تضمد جراحاً، وتمسح دموعاً، وتخفف وجعاً، برزت كبطلة إنسانية في شرق غزة، تتنقل بين الشبان هي وزملائها وزميلاتها، وتسعف ما كان بالإمكان اسعافه، عرفها القريب والبعيد، فقرر الاحتلال أن يختتم قصتها بالدم، فمرةً أخرى، أمسك القناص ببندقيته، وبعيون حكومة الاحتلال صوبها نحو قلب رزان الرقيق، وبيدي العالم المتخاذل قبض على الزناد، وأصاب رزان، التي لم تستطع اليوم تضميد جراحها، ولا مسح دموع والدتها وأحبائها، فرحلت روحٌ اخرى، إلى خالقها، وبقي من خلفها يسكن القهر ثنايا أرواحهم.

من حيفا إلى غزة، تبكي أمواج البحر رزان، وتلعن الاحتلال الذي قرر اغتيال الأحلام، لن أتحدث في القانون، لأن مجلس الأمن احتلته وقاحة أمريكا، ولا في الأخلاق، لأن العالم شاهدٌ على المذابح، أتحدث عن جغرافية الوطن، الذي سيحتضن أوجاعنا وإن طال الزمن، سيلفظ الاحتلال الذي طال ظلمه.