شبكة قدس الإخبارية

باب الرحمة بالقدس.. قصة عبر الأزمان آخرها التهويد

سارة قراعين

القدس المحتلة-خاص قُدس الإخبارية: "أخذوا مقابرنا فجأة"، يقول الحاج محمد أحمد قراعين عن تفاصيل مصادرة القبور التي اشتراها قبل حوالي 10 سنوات، "اشترينا 6 قبور بشكل قانوني، وفي يوم أخبرني ابن عمي خضر قراعين أنه في طريق عودته من الصلاة في المسجد الأقصى عبر المقبرة رأى شرطة الاحتلال وعناصر من "سلطة الطبيعة والحدائق" متواجدة في المكان، وعند سؤال الأوقاف قالوا لنا إن الاحتلال صادرهم بحجة منع الدفن في هذه المنطقة، ولم نسترجع أموالنا!". ويضيف، "كثيراً ما يحاول الاحتلال عرقلة وصول الجنائز للدفن في المقبرة، لكن الأهالي تأبى إلا الدخول".

تعمل ما تسمى "سلطة الطبيعة والحدائق" مؤخراً بمرافقة عناصر شرطة الاحتلال الاسرائيلي على اقتحام مقبرة باب الرحمة، وتقطيع أشجار فيها، بهدف الاستيلاء عليها ومصادرة أجزاء منها، وتحديد منطقة بطول (200 متر) بهدف إنشاء "مطلات وحدائق توراتية"، وبناء القطار الهوائي السياحي "التلفريك"، وتحويل المقابر الإسلامية (وهما مقبرة باب الرحمة والمقبرة اليوسفية) إلى مراكز وساحات سياحية.

وكان من أواخر المشاريع التي أُعلن عنها، قطار هوائي "تلفريك" يبلغ طول خطه 1.4 كيلومتر، من المتوقع أن يتم بدء العمل فيه عام 2019 وتشغيله عام 2021، وتقتحم شرطة الاحتلال وعناصر من سلطة الطبيعة والحدائق بين الحين والآخر تلة الحسيني المصادرة لتضع إشارات في منطقة وقف الحسيني والأنصاري، وهو المكان المخطط لمرور القطار الهوائي منه.

وعن تفاصيل الحديث المخطط، فانه مساره سيكون حول المسجد الأقصى من جهتيه الجنوبية والشرقية، وسيصل إلى قلب بلدة سلوان، وله أربع محطات رئيسة، أقربها محطة بجانب باب المغاربة الخارجي، في مدخل "وادي حلوة" على بعد 20 متراً من سور القدس التاريخي، ونحو "100 متر" عن جنوبي الأقصى. فيما ستكون المحطة الثانية عند الكنيسة الجثمانية شرق باب الأسباط – أحد أبواب القدس القديمة، وعلى بعد عشرات الأمتار عن شرقي الأقصى ومقبرة باب الرحمة، أما المحطة الثالثة فستكون على جبل الزيتون، وستنصب المحطة الرابعة بجانب "عين سلوان" وسط البلدة.

يخطط رئيس بلدية الاحتلال نير بركات لجلب عشرة ملايين زائر سنوياً للمشاركة في "الحوض المقدس" كما يسميه الاحتلال، بهدف تكريس السيادة والسيطرة الإسرائيلية على مدينة القدس، كما قال عند الإعلان عن المشروع عام 2016، "نريد أن ندلل ونؤكد للجميع من هو صاحب السيادة في القدس، ومن هو صاحب البيت".

كما كانت آخر محاولات تدنيس للمقبرة قبل عدة أيام (الأحد 15 نيسان 2018)، دخلت مستوطِنتان مقبرة باب الرحمة باتجاه المقابر الملاصقة لبابي الرحمة والتوبة المغلقين، وحطمتا أحدها. وقال رئيس لجنة رعاية القبور الإسلامية مصطفى أبو زهرة عن ذلك: "القبر قديم جداً عمره حوالي 200-300 سنة، فكان من السهل تحطيمه". وأضاف: "يبدو أنهما كانتا تبحثان عن قبر بعينه لكننا لم نجده، لقد ذهبنا إلى المنطقة التي تواجدتا فيها، أي أمام بابي الرحمة والتوبة، يوجد هناك 5 قبور قديمة".

تهويد ممنهج بلا رادع من يحاول زيارة الباب من داخل باحات المسجد الأقصى اليوم لن يستطيع حتى نزول درجاته التي أُغلقت بباب حديدي، كما لن تستطيع عيناه تجاهل كميات الحجارة الكبيرة والأعمدة الحديدية الموجودة أمامه، والتربة غير المستوية كأنه قد تم حرثها حديثاً، علماً أنها المنطقة الوحيدة التي يمكن ملاحظتها بهذا الشكل، وهو ربما ما يؤيد تقرير الأوقاف الصادر العام الماضي أنه خلال إغلاق المسجد ليومين في تموز تم الحفر هناك.

حيث نشرت لجان أوقاف القدس في تقريرٍ لها بعدما كلفتها الدائرة العامة لأوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى بفضح الانتهاكات الإسرائيلية خلال فترة إغلاق المسجد الأقصى بقرارٍ من الاحتلال (الجمعة 14 تموز 2017)، وكان من ضمن نتائج البحث البند (هـ) بعنوان "باب الرحمة وباب التوبة" وتم توثيق التالي: "أحدثت سلطات الاحتلال ثقباً بالشباك العلوي للباب من الجهة الشرقية اخترق الجدار إلى الخارج، ولوحظ آثار حفرية في الـمنطقة، وتبيّن وجود كسر في طرف زاوية الكورنيش الحجري ووجود قطعة من الرصاص مزروعة بالكورنيش، كما وجد تكسير لأجزاء من الحجارة في الشباك الحجري الثاني".

يقول الباحث في تاريخ القدس، إيهاب جلاد، "إن أهمية هذا الباب بالنسبة لهم ليست جديدة، هم يزعمون أن في نفس المكان يوجد الباب الشرقي للهيكل، لذلك يسمونه "الباب الذهبي"، وهذا ما يتناسب مع الدعاية الصهيونية المتعلقة بالهيكل"، مضيفًا "الرواية الموجودة قديماً تتحدث عن أن مسيحهم المنتظر سيدخل من هذا الباب في آخر الزمان معيداً حكم بني إسرائيل للعالم. وهو ما يفسر بروز اهتمامهم مؤخراً بالوصول إلى هذه المنطقة بعد اقتحامهم ساحات المسجد الأقصى لإقامة صلواتهم "التلمودية" هناك بشكل متكرر.

وقد أظهرت نتائج البحث عن محاولات الدخول عبر هذا الباب نتيجتين، الأولى كانت خلال حرب عام 1967 حين حاول الصهيوني "موشيه ديان"، وهو عسكري وسياسي إسرائيلي، فتح الباب لكنه فشل، والثانية عام 2002 عندما حاول يهودي "فتح قبر المولوية المجاور للباب من الخارج وحفر أسفله نفق يمتد إلى داخل الأقصى"، وتحرص دائرة الأوقاف في القدس على إغلاقه خشية تسلل المستوطنين المتطرفين إلى الحرم الشريف عبره.

والقبور المولوية هي مجموعة من القبور الملاصقة لباب الرحمة من الخارج، تابعة للطائفة المولوية الصوفية التي سكنت داخل قاعات هذا الباب، لكنها مسيجة بأعمدة حديدية وقديمة جداً مما يصعب قراءة شواهدها.

هذا إلى جانب الحفريات التي حدثت عام 1990 على يد عالمة الآثار الاسرائيلية "مريام روزا يالون- Myriam Rosen Ayalon" التي أثبتت أن هذا الباب، عن طريق البحث العلمي، يعود إلى فترة القرن السابع الميلادي، أي في عهد الأمويين، واكتشفت أيضاً أن هناك قوسين أسفل الباب قد يكونان مدخلاً شرقياً للمبنى المؤدي إليه، وهو ما نشرته في كتابها"IslamicArt and Archaeology in Palestine".

البابان عبر التاريخ

باب الرحمة هو واحد من خمسة أبواب مغلقة من أصل 15 باباً للمسجد الأقصى، وهو عبارة عن باب مزدوج –أي بابين- هما باب الرحمة من الجهة الشمالية، وباب التوبة من الجهة الجنوبية، يؤديان إلى رواقين بقبتين صدفيتين، تبلغ مساحته ما يزيد عن 90 متراً مربعاً، واجهته من الداخل فيها 3 أعمدة فوقها إفريز يعتقد أنه أخذ من أحد المباني البيزنطية ويؤدي هذان البابان إلى ساحة تنتهي بدرج يصل إلى صحن المسجد القبلي.

أما عن روايات إغلاقه فهي متعددة، كما يقول الباحث في تاريخ القدس روبين أبو شمسية، "تقول الأولى إنه أغلق منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، مما يتناقض مع تاريخ البناء، بينما تقول الثانية إن إغلاقه كان من قبل العثمانيين، في حين تقول الثالثة إن صلاح الدين الأيوبي أغلقه لأسباب اقتصادية كون الباب يصل إلى ساحات المسجد الأقصى مباشرة وإغلاقه يدفع زواره إلى المرور بأسواق القدس مما ينعشها، ولأسباب أمنية تتعلق بالغزو، وهي الرواية الغالبة".

خصصت قاعاته لتكون مسجداً تابعاً للأوقاف تعطى فيه المحاضرات الدينية ودراسة الحديث الشريف وامتحانات تجويد القرآن والاجتماعات العامة للأوقاف. ارتاده أتباع المذهب الحنبلي، وأقيمت فيه زاوية للذكر والدعاء وتدريس الفقه، عرفت باسم "الزاوية الناصرية" أو "الزاوية النصرية" نسبة للعالم الشيخ "نصر المقدسي"، يعلو فوق القبتين غرفة مساحتها لا تتعدى 14 متراً مربعاً استخدمها -حسب التاريخ- أبوحامد الغزالي حين اعتزل الناس لمدة عام كامل، حيث درس الفقه والتفسير، وكتب خلالها كتابه الشهير "إحياء علوم الدين" ووضعه هناك.

استلمته لجنة زكاة بيت المقدس وكان يوزع من خلاله ما جمع من الزكاة للفقراء، ثم أخذته لجنة إعمار الأقصى بإذنٍ خاص من الأوقاف لإشغاله. بينما كانت لجنة التراث الإسلامي –التي لم تعد قائمة الآن- تستخدمه مقرًّا لها، مما دفع شرطة الاحتلال لإغلاقه عام 2003 بحجة أن اللجنة تقوم بنشاطات سياسية. تقدم المفتش العام لشرطة الاحتلال "روني الشيخ" بطلب لمحكمة الاحتلال، بإصدار أمر يقضي بإغلاق مبنى "باب الرحمة" في المسجد الأقصى بشكل نهائي اعتمادًا على مواد "استخبارية سريّة" كما قال حينها، وتم إصدار أمر مؤقت: "يمنع دائرة الأوقاف الاسلامية من فتح مكاتبها في مبنى مسجد باب الرحمة، وأن أسس هذا المنع بموجب المادة 59 من قانون مكافحة الإرهاب لعام 2016، واعتبار جميع مستندات القضية سرية ولا يجوز الكشف عنها للجمهور حفاظاً على أمن الدولة"

أقصر الدروب بين الأرض والسماء

تسمى المنطقة الخارجية لهذا السور بـ"وادي جهنم" تعريباً للاسم العبري "جاي بن هينوم"، حيث يعتقد اليهود أن الصراط سيصلها امتداداً من جبل الطور، لذلك أقاموا مقابرهم في ذات المكان، على اعتبار أن نهاية العالم ستكون من هنا وسيكونون هم أول من يعبر الصراط وصولاً إلى المسجد الأقصى ومن هناك إلى السماء. يطل باب الرحمة من الخارج على مقبرة إسلامية عريقة تحمل اسم "مقبرة باب الرحمة" نسبة إليه، يمتد تاريخها إلى الفتح العُمري عام 15 هجري الموافق 636 ميلادي، تحتضن في 23 دونماً من الأراضي الملاصقة للسور الصحابيين عبادة بن الصامت (34 هـ) وشداد بن أوس (58 هـ)، كما يعرَّف عنهما على المدخل من جهة باب الأسباط. كما يرقد فيها العديد من القبور التي يعود تاريخها إلى عهد المماليك والأمويين والأيوبيين والعثمانيين، منها قبور شيوخ، وأئمة، وشخصيات عامة، ومجاهدين، وشهداء ضحوا بدمائهم من أجل الوطن، منذ النكبة (1948)، والنكسة (1967)، والانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى (1987)، والثانية "انتفاضة الأقصى" (2000)، ومذبحة الأقصى الاولى (1990)، والثانية "انتفاضة النفق" (1996).

نذكر منهم الأستاذ حسني سليمان الأشهب، الذي أسس مدارس القدس الخاصة لتكون بديلاً عن مدارس البلدية التابعة لحكومة الاحتلال، والشهيد الدكتور أحمد المسلماني (حكيم القدس)، المناضل في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد مؤسسي "لجان العمل الصحي"، والطفل الشهيد مجدي المسلماني الذي استشهد بعد تلقيه رصاصة خلف أذنه اليمنى من مسافة صفر عند مغادرته المسجد الأقصى اثناء اندلاع مواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال، والشهيدة نائلة حمدان قراعين (ملاك القدس)، والشهيد محيي الدين صيام، والشهيد عاطف أحمد النابلسي الذي استشهد في انتفاضة الأقصى، والشهيد ياسر موسى الدقاق، وموسى عاهد الأنصاري عميد آل الانصاري، والشيخ ياسين صادق البكري، وكان إمام ومدرس في المسجد الأقصى المبارك، والحاج حسين عبدالله حجازي خادم الطريقة القادرية وحارس المسجد الأقصى لمدة 80 عاماً، وغيرهم الكثير.

هؤلاء جنباً إلى جنب مع قبور كتب على شواهدها "من قرية قالونيا"، أو "من يالو"، أو "من دير أيوب"، أو "من دير ياسين"، أو "من اللد" تمسكاً منهم بحق العودة حتى بعد وفاتهم.

بينما يكمل رئيس لجنة رعاية المقابر الاسلامية مصطفى أبو زهرة كلامه بإعادة ما يكرره ممثلو الأوقاف في كل مقابلة صحفية: "نحن نرفض ونستنكر هذه الاعتداءات، ونعمل كل ما يلزم من وقفات احتجاجية وتضامنية بخصوص مصادرة أراضي الوقف، كما توجهنا لمحاكم الصلح والمركزية وقد يتبع ذلك المحكمة العليا". مختتمًا "لدينا مشروع كبير لتبليط وتنظيف المقبرة!".