شبكة قدس الإخبارية

فعل البسيط وفاعليته

حذيفة جاموس

في معادلات الرياضيات، تعلّمنا أن المعادلة ذات العملية الواحدة هي معادلة بسيطة، وكلما أُدخلت متغيراتٌ جديدةٌ، أصبحت المعادلة مركبةً، فمعقدةً.

منذ مائة عامٍ ونيف، تعيش بلادنا فلسطين تحت وطأة الاستعمارين الإنجليزي والصهيوني. أَنْبَتَ هذا الواقعُ بعضاً من التركيب في شخصية الإنسان الفلسطيني؛ هذا ما أفترضه. غير أن هذا الواقع المُعقّد لم تُوازيه حالةٌ معرفيةٌ تسمو إليه، تحديداً في حقول الهوية الوطنية والتاريخ والانتماء. ولأكون أكثر تحديداً، فإنّني أدّعي أن الارتباط بالهوية الوطنية (المقاوِمة) ليس بحالةٍ عامةٍ، بل مقصوراً على فئاتٍ معينةٍ من الفلسطينيين.

في المقابل، يبتعد كثيرون عن محاولات نقاش الانتماء والارتباط بالهوية الوطنية، بل إن ثمّة محاولاتِ انسلاخٍ عن الهوية الوطنية بشتى الطرق والأساليب، بيد أنّ أصحاب هذه المحاولات سرعان ما يصطدمون بثلاثة جنود لم يتجاوزوا بعد الـ18 عاماً يعيدونهم للواقع بثوانٍ معدودة، أو للحقيقة التي يجب أن تبقى متقدة في أذهانهم.

إثر هذه الحالة من تغييب المجال الوطني العام التي تؤثّر، إجمالاً، على صناعة المحتوى الفلسطيني، نصبح أمام محتوى يبتعد- في سواده الأعظم- عن أهم القضايا الوطنية والمعرفية الملحّة، فيما يلتصق بالقشور والمعطيات البسيطة، بل نستطيع الادعاء بأنّ المحتوى الفلسطيني يعاني من الشتات والاغتراب عن ذاته وواقعه، الأمر الذي ساهم في تشكيل وصياغة عناوين الهوية الوطنية للفلسطيني البسيط.(1) هنا، نلحظ فشل أصحاب نظرية "الهوية الوطنية" القائمة على التعبئة في تشكيل أي هوية حقيقية مقاومة، بينما استطاع الشهيد أحمد جرار تشكيلَ حالةٍ من الانتماء للمقاوم والفعل، وذلك بين أعدادٍ كبيرةٍ بين البسطاء.

لا بدّ في مقالتنا الموجزة هذه الانطلاق من تعريفنا لمفهوم الإنسان الفلسطيني البسيط، والذي نعني به الإنسان الناشئ على فطرية المقاومة، دون أن تلوّثه العقلانية السياسية أو حتى الأكاديمية، أو المجال المعرفي الذي يربّي بالنهاية ثقافةً انهزاميةً واستسلاميةً. لا تتعارض البساطة، بالضرورة، مع الحالة المعرفية بمعناها المجرد، لكنها تتعارض مع المعرفة التي تلتف على الواقع وتعمل على ليِّ عنقه، لتُقصي الخيارات الأكثر وضوحاً وبساطةً في تأطير الهوية الوطنية للشعوب التي تعيش تحت وطأة الاستعمار، وتقف على طرفٍ نقيضٍ من معرفةٍ تحررية تُتمّم نفسها بالفعل المقاوم في نهاية المطاف.

كيف يخوض البسيط المعركة؟

عادةً ما يختلف مدى تجاوب الإنسان البسيط مع الحدث، تبعاً لدرجة وضوح الفعل ونتيجته. مثلاً، ثمّة كثيرٌ من الفلسطينيين يفضّلون الادعاء بأنّ أحد الشهداء "تُوفي في حادث سير" على القول بأنّه نفذ عملية دهس، بل ويحاولون خلق الأدلة التي تفنّد، جاهدةً، ارتباط هذه المسألة بأي فعل مقاوم حقيقي، وهو ما ينعكس على حالة الانتماء العامة للشهيد، التي نجدها أحياناً مترددةً إزاء بعض الشهداء، تبعاً للسؤال عن الفعل والمكان والظرف ربما، بما يشمل أحياناً عمليات الطعن.

في المقابل، نرى في عمليات إطلاق النار، التي غالباً ما تكون نتائجها أكثر حضوراً، التفافاً أكثر وضوحاً وثباتاً من الناس حولها. بخصوص هذه المفارقة، أدّعى أن المسألة مردها إلى بساطة معظم مكوّنات الشعب الفلسطيني، فالبسيط عادةً ما يؤخَذ بالفعل الأكثر توهّجاً وذي أثرٍ ملحوظٍ. تفّسر هذه المسألة خروجَ عددٍ من المسيرات العفوية البسيطة في الضفة الغربية وبأعدادٍ هائلةٍ، بعد شيوع نبأ اختطاف المقاومة الفلسطينية في غزّة الجنديَّ شاؤول أرون في الحرب الأخيرة على غزة 2014. لم يمضِ الشبان وقتاً في تحليل عملية الاختطاف أو أثرها، إنما اتّجهوا للتفاعل مع الحدث البارز باعتباره انتصاراً صارخاً.

ممّا طرحناه أعلاه، يبرز لدينا سؤالٌ مشروعٌ؛ مفاده: "كيف نستطيع جعل البسطاء عنصراً أساسياً من عناصر المعركة؟"، بل "كيف بإمكان البسطاء أن يشكّلوا العمق الداخلي لحالة المقاومة إجمالاً؟ لمحاولة الإجابة على هذين السؤالين، علينا أن نقرّ أولاً بأنّ الإنسان البسيط ليس شديدَ التأثر بالمنظّرين والأكاديميين وأصحاب الرسالات السياسة والثقافية والمعرفية، بل هو سريع التأثّر بالفعل، فإذا ما اكتوى بالنار، يهبّ سريعاً لصناعة الحدث.

للتدليل أكثر على ما نقول، سنستعيد هنا الثورةَ الفلسطينيةَ الكبرى (1936- 1939)، إذ كان الفلسطيني البسيط عنصراً أساسياً وفاعلاً بتشكيلها، حيث شُكلت الهوية الوطنية للثورة بواقع القوة. يمكننا الادعاء، هنا، بأن حالة الثورة كانت أبسط من أن تستغرق وقتاً في عملية بناء الوعي وتشكيل حالة أمنية ناضجة حامية للثوار، بل اتجه الأخيرون مبكراً إلى خيار الكيّ بالنار، كما عزز الاستعمار الإنجليزي هذا التوجّه بعمليات العقاب الجماعي التي نفّذها.

بعبارةٍ أخرى أكثر تكثيفاً، تشكّل لدى الفلسطيني البسيط، آنذاك، وعيُّ ثوريُّ حقيقيٌّ، فهو من حَمَى الثورة وصانها، على الرغم من أن التعبئة الأمنية والثقافية لم تكن في أحسن أحوالها. شَكَّل تنفيذ عمليات الإعدام الميدانية للعملاء وبائعي الأرض أول خطوات الكي بالنار، ما جعل الانتماء للهوية الوطنية، ببساطة، مفروضاً. على نفس المنوال، أتى انخراط معظم فئات شعبنا الفلسطيني في الانتفاضة الأولى، وعلى رأسهم عمال البناء في المستوطنات، بل ما حرّك الانتفاضةَ برمتها دهسُ عمالٍ من غزّة، الذين ببساطتهم وحنقهم تمكنوا من إشعال الانتفاضة في مختلف المناطق الفلسطينية.

حين تجتمع البساطة مع الصدق

تجعلنا كلّ هذه المعطيات أمام حقيقةٍ واحدةٍ؛ وهي أن الطريق الطويلة من الشرح والتثقيف والتعبئة، التي قد تستمر سنينَ طويلةً، ليست شديدة الفعالية على مستوى جماهيري واسع، إذا ما قيست بعملية تكوين الوعي بالنار التي نضمن من خلالها انخراطاً جماهيرياً واسعاً في الحالة الثورية، إذ تخلق النار شعباً صلباً مقاوماً. تفسّر هذه المسألة مبادرة الإنسان البسيط للانخراط في أي حالة ثورية أو هبة حصلت في فلسطين، إذ إن معظم عمليات الهبة الأخيرة التي انطلقت شرارتها عام 2015 بادر إليها شبانٌ صغيرو السن، لم يتعرضوا لعمليات معرفية وتوعوية كبيرة.

في المقابل، علت كثيرٌ من أصوات المثقفين، الذين لم ينخرطوا بعد في هكذا حالة ثورية، مندّدةً بالفعل الثوري- تحديداً في حالة العمليات الفردية- ومعتبرةً إياها بلا جدوى منطقية موسومة من ورائها، بل وساوت تلك الأصوات الفعل الثوري بـ"التهلكة" التي يذهب إليها الشهداء بأقدامهم، أو تصويرهم بأنهم مغررٌ بهم لا يقودون تفكيرهم الذي أوصلهم إلى يقين الشهادة.

على خلاف تلك الأصوات، كان الشهيد المقاتل باسل الأعرج قد كتب في وصيته، "وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟"، متّجهاً بذاته إلى كتابة وعيه الوطني بالدمّ، بعد سنين من القراءة والبحث والانهماك بالمعرفة التحررية، التي أوصلته إلى قناعةٍ حتميةٍ بأن الفعل هو صاحب القيمة الأعلى في الحالة الوطنية، وهو من يصوغ المشهد الوطني المقاوم؛ ما يعني أن المعرفة التي راكمها عزّزت لديه منطق البساطة والصدق في مواجهة الاستعمار بالحديد والنار.

كما نجد أنّ هذا النموذج كان أكثر إلهاماً بعيون مَنْ بعده، إذ رافقت- مثلاً- عملية مطاردة الشهيد أحمد جرار، ومن ثم استشهاده، انخراط أعداد ضخمة في دعمه ومؤازرته، إذ إن الانتماء العام إلى فعله مكّن الشهيد من الاختفاء عن أعين الاحتلال ووكلائه لأكثر من أسبوعين.

اليوم، لا نستطيع الادعاء بأنّ البسطاء كلّهم منخرطون في المعركة، بل قد وصلنا إلى مرحلةٍ خسرنا فيها جزءاً لا بأس به من البسطاء. ربما نكون قد خسرنا جنوداً بسطاءً، وأضفنا عدواً آخرَ. يُعزى السبب، ربما، إلى حاجة البسيط الدائمة للشعور بأنّ تضحياته ذات قيمة، وهو ما قاله مراراً الشهيد باسل الأعرج عن جدوى المقاومة، باعتبارها حالةً مستمرةً، وعلى اعتبار أن أثر حالة الفعل المقاوم سيبقى محفوظاً ويتراكم فوق بعضه بعضاً، ولو بعد حينٍ.

ختاماً، يمكننا القول إن آليات تشكيل الوعي الفلسطيني تتلخّص في صيانة الفعل المقاوم، وجعله رافعةً قويةً لبناء بيئةٍ عامةٍ ذات هوية وطنية مقاومة قادرة دوماً على التوالد والتجديد، فدون أن يكون الفعل المقاوم منهجَ حياةٍ، لن نستطيع خلق العمق الشعبي للمعركة، واحتواء الدم المتفجّر في عروق البسطاء منّا.

المصدر: باب الواد 

............

الهوامش

1) البسيط عند العرب: المُنطلِق بلا تكلّفٍ أو تصنّعٍ