شبكة قدس الإخبارية

حمزة الزماعرة... طلب الشهادة في مكة ونالها على طريق القدس

ساري جرادات

الخليل- خاص قُدس الإخبارية: لم يكن عصر الثامن والعشرين من آب 1998، يسيرًا أبدًا، يشتد وجع المخاض العسير على "أروى"، تستنجد بزوجها "يوسف" الذي كان يركن ظهره إلى دالية العنب خلف فناء منزله في حلحول شمال مدينة الخليل، يتلاشى العرق عن جبينه ويبدأ رحلة البحث عن مركبة تقلهم للمستشفى.

في الطريق إلى المستشفى، ينحني السائق بسيارته نحو طريقٍ زراعية وعرة، جراء إغلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي لشارع بلدته الرئيسي، ليقي الأم وجنينها الذي بات قدومه على بعد دقائق معدودة قدر الإمكان، يحاول الجنين أن يخفف عن والدته مضاعفة ألم المخاض، تسير الأمور على ما يرام.

تقول أروى نعمان والدة الشهيد حمزة الزماعرة لـ "قُدس الإخبارية"، "أعتقد اليوم أن حمزة كان جلّ تفكيره ونحن في الطريق نحو المستشفى بكيفية الانتقام من جنود الاحتلال المحاصرين لبلدته، ويمنعون حركة أهلها، ولكن صوت الرصاص الحي المتواصل بين الأزقة والبيوت لم يستطع منع ميلاد المقاوم الجديد".

سميّ الطفل "حمزة"، الاسم المختار للقادم إلى الأرض المخضبة بدماء الشهداء ووصاياهم، تيمنًا بسيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وكأن والده أيقن بعد مضي عقدين على تسميته له أن لكل فلسطيني من اسمه نصيب، ليلتحق بركب الشهداء، ويجسد باستشهاده مقبلاً مقولة "الشهادة رأس حربة المواجهة".

ومع انطلاق آذان المغرب، زاد يوسف من التكبير في أذني حمزة، ولقنه كأب، حدود بلاده وتضاريسها، وأطلعه على بعضٍ من حكايا الشهداء والتضحيات الجسام، وتمتم ثانية له، وأوصاه بأن تبقى بوصلته القدس، وفي مساء اليوم الثاني عاد يوسف إلى منزله يحمل بين ذراعيه ابنه "حمزة يوسف الزماعرة".

تتوالى سنوات حمزة، لتكسبه مزيداً من الحكمة والصبر والهدوء، محافظًا على صلاته وقيام ليله، ولم تستطع رصاصة مستقرة قرب عموده الفقري أصابته بها قوات الاحتلال الاسرائيلي في العام 2014، من تغيير بوصلته أثناء سيره نحو القدس، تعايش مع الألم الشديد، واكتوى بلهيب برد سجن "عوفر"، كما يقول والده.

ويضيف والده لـ "قُدس الإخبارية"، "في شتاء العام ذاته، أحاط الجنود المدججين بأدوات القمع والقتل، بمنزل حمزة من كل جانب، اعتقلوا الطفل وانسحبوا بعد تفتيش وتمحيص في بيته ووجهه، علهم يستطيعون وقف تفاصيل سرمدية المقاومة التي آمن بها وعمل فيها بكل ما وسعت يداه الصغيرتان من حجارة".

فيما أكدت والدته أن "السجن وسنواته العجاف لم تغير في إيمان ابنها بفلسطين شيئًا، بل زادته يقيناً بقضيته، وبأهمية التعليم والعودة إلى المضي في الحصول على شهادة الثانوية العامة، جراء تكرار اعتقاله للمرة الثانية على التوالي، بعد نحو أربع شهور من الإفراج عنه من سجون الاحتلال".

بعد اثني عشر شهرًا، تحرر حمزة ليفي بوعده لرفاق القيد ويبدأ بالدراسة، لم تكترث والدته لصوت المذياع في حزيران 2017، وفي لحظة فارقة فقدت توازنها وسقطت منها دمعتين، مدوياً صراخها ابتهاجاً وفرحاً بسماع اسم ابنها حمزة ضمن قوائم الناجحين في الثانوية العامة.

وبحسب رواية أهله، فانه وقبل شهر من استشهاد حمزة الزماعرة (18 عامًا)، كان قد وقف ملياً أمام قبر سيد الشهداء حمزة أثناء تأديته لمناسك العمرة، ليقترب الاسم من المطلوب رويداً رويداً، داعيًا ربه بصدقٍ من قلبه: "يا رب تطعمني الشهادة".

وأضافت والدته لـ "قدس الإخبارية"، كان وجهه يشع نورًا بعد ارتداء ملابس الإحرام قبل استشهاده بأيام، لم يكن يشبه شيء سوى ما نقرأه ونعلمه من صفات الشهداء، ولكن لم أكن أعلم أنه طلب الشهادة بصدق ونالها بشرف، حتى أنه سدّد آخر أقساط هاتفه النقال الذي نقل عبره وصيته إلى الجموع.

الأسبوع الأخير في رواية الشهيد حمزة كان تراجيدياً، ترك غرفته وحيطانها وقوارير عطره، وقرر أن ينام في غرفة والديه، يصلي كثيرًا من الليل، ويتهجد، ويخلد في نومه بانتظار آذان الفجر.

وفي ليلة استشهاده، عاد والده بعد سماعه لصوت محرك مركبته من المسجد ولم يجد حمزة، وبعدها تواردت الأخبار وتعددت، حتى سلّم والده بسعة صدره وجلده باستشهاد ابنه، الذي أصر قبل نحو ثلاثة أيام من استشهاده إلى مرافقته إلى الحقل لتقليم دوالي العنب، وجمع ما تيسر من العيدان المتساقطة على الأرض التي وهبها حياته.

"أروى"، التي تكفكف دمعها، كانت تخشى من برد ثلاجات الاحتلال على فلذة كبدها، عادت بشريط ذاكرتها إلى مشهد صلاة الشهيد رائد جرادات في فناء المدرسة التي تعمل فيها مربية للأجيال، استحضرت صبرها وطاقتها لتحمل نعش ابنها وتسير به إلى خلوده الأبدي.

"يوسف"، أعدّ له الأرض كي يستريح، وجلس قربه في مقبرة شهداء حلحول التي سارعت لأن تختلسه من المشيعين قبل أن يكملوا عرسه، فالآلاف من الشهداء والأنبياء والصديقين بانتظاره، قبل أن تطالب الجموع التي هبّت للاحتفاء بزفاف الشهيد.

إعلان الرئيس الأمريكي "دونالد ترمب"، قبل نحو ثلاثة شهور، القدس عاصمة للاحتلال، جعل من الشهيد حمزة يكتب وصيته الأولى، ويصعّد من مقاومته ضد قوات الاحتلال، وانصب تفكيره في القدس وتفاصيلها وعجائبها التي لا تعد أو تحصى، قبل أن يستشهد في السابع من شباط الحالي، عقب تنفيذه لعملية طعن على مدخل مستوطنة "كرمي تسور"، أصاب فيها أحد جنود الاحتلال، واحتجزت سلطات الاحتلال جثمانه لعشرة أيام قبل أن يشيّع في جنازة مهيبة.