شبكة قدس الإخبارية

"بـاربـي المقاومـة"

أماني سنوار

تنشط منذ أشهر حملات منظمة عبر وسائل التواصل للنيل من الإجماع العربي حول دعم فلسطين والعداء مع "إسرائيل"، بعض هذه الحملات تتجاوز الخطوط الحمراء وتذهب بعيدا نحو تلميع دولة الاحتلال وجيشها عبر التستر بغطاء يبدو للوهلة الأولى متقبلاً للنفس، وهو عقد المقارنة مع الدول والجيوش العربية القمعية في المنطقة.

أحد هؤلاء المشبوهين، كان قد أطلق وسماً عبر تويتر يسخر فيه من الطفلة الشجاعة عهد التميمي، واصفاً إياها بالـ"باربي" التي تسعى للشهرة، ومستدعياً للفظة "القضية" التي صارت مؤخراً علامة للسخرية من مكانة فلسطين في وجدان العرب.. أيام قليلة، ويقوم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باقتباس هذه التغريدات وتوظيفها في مقطع فيديو دعائي يروج لـ"إنسانية إسرائيل وتحضرها" بشهادة العرب أنفسهم..

ليس لدي أدنى فكرة عن شعور أحدهم حين يجد تغريداته التي يمتدح فيها جيش الاحتلال -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- منشورة على صفحات الجيش الإسرائيلي، لكني أعرف أنه على الرغم من بشاعة وغباء هذه الأطروحة إلا أنها ما زالت تتكرر، وما زالت قنوات نثق بها كالجزيرة تسمح باجترارها في برامجها كما يحلو لفيصل القاسم أن يفعل.

ويبدو أن من يقع في فخ التلميح لـ"إنسانية إسرائيل" مقارنة بالأنظمة العربية يغيب عنه أن "إسرائيل" كيان خارج المقارنة أصلاً؛ حيث لم يكن يوماً مكوناً من مكونات المنطقة، بل إن ما تعيشه بلادنا من تراجع وغرق بالدكتاتورية ليس سوى نتاج المشروع الاستعماري الحديث المتمثل بوجود "إسرائيل" وحرص الغرب على استمراريته وتفوقه، وأن واحداً من أهم أسباب الثورات المضادة والإرهاب القادم من خارج الحدود الذي مكّن الأنظمة من قتل شعوبها وارتكاب الفظاعات في حقهم، هو منع قيام نظام عربي يتمثل تطلعات شعبه فيهدد أمن "إسرائيل" مستقبلاً.

ذاكرة السمك أيضاً هي من تجعل البعض ينسى سجلاً من المجازر وعمليات التطهير العرقي التي مارسها الاحتلال على مدى عقود في فلسطين ولبنان (الاحتلال قتل عام 1948 أكثر من 15 ألفا من فلسطينيي الداخل وهجّر 85٪ منهم)، والحال أن عقد المقارنة بين سلوك الأنظمة التي تتعرض عروشها للخطر بفعل الثورات يجب أن تقابله العودة للتاريخ للنظر في سلوك الاحتلال حين كان معرضاً لخطر مشابه، وتكفي إشارة التذكير بما قام به عام 2014 من تدمير حي بأكمله في غزة وقتل 100 من سكانه لمجرد شبهة وجود جندي محتجز فيه (وليس لخطر حقيقي على أمنه!).

وللأسف فإنه في معرض ضخّ ممنهج لمقولات تشوه الحقائق وتلمّع الاحتلال والظلم في معرض الإيهام بالانتصار للمظلومين، يغدو التنويه بهذه البديهيات مطلوباً وكذلك إعادة رسم مشهد مواجهة عهد التميمي لجنود الاحتلال الذين اقتحموا ملكية عائلتها الخاصة، واعتدوا مراراً عليها وعلى أفراد أسرتها واعتقلوهم واقتحموا منزلهم كما بقية منازل قرية النبي صالح في طقس شبه أسبوعي، أضف إليه مصادرة ما يزيد عن 30٪ من أراضيها ونبع الماء الذي يغذي مزارعها. وإن كان هناك من يرى أن عهد طفلة محظوظة بوجودها في السجن ومواجهتها ثماني تهم أمام القضاء العسكري، فثلاثة من أقربائها اليافعين تم قتلهم بالرصاص في مشاهد أخرى لم تتواجد فيها الكاميرا.

وتشكل قرية النبي صالح التي تنحدر منها عهد حالة فريدة من حالات المقاومة الشعبية في الضفة، وعلى الرغم من صغر مساحتها وعدد سكانها الذي لا يصل إلى 600 شخص، إلا أن حالة الاحتجاج السلمي ضد الجدار ومصادرة المياه والأراضي مستمرة فيها أسبوعيا منذ 9 سنوات، وتشكل عائلة التميمي الكبيرة محركاً هاماً لتلك الاحتجاجات. ولعل فهم خصوصية القرية وفلسفة المقاومة الشعبية عامل مهم لتقييم الانتقادات التي أثارها الناس بعد اهتمام الإعلام بعهد التميمي دوناً عن غيرها من الأسيرات الفلسطينيات.

في البداية لا بد من التوضيح أن نجاح قصة عهد ووصولها للإعلام لا سيما الغربي، هو قصة نجاح لكل أسير وأسيرة فلسطينية، لأنه يصب في خانة التضامن مع الفلسطينيين وفضح الانتهاكات الإسرائيلية، ولعل نجاح نموذج المقاومة الشعبية في النبي صالح سبب رئيس للاهتمام بعهد، فكثير من وسائل الإعلام تعرف القرية وتغطي أخبارها أصلاً، أضف إليه أن أسرة التميمي كانت على مدار سنوات على تواصل مع وسائل الإعلام والصحفيين الأجانب لتزويدهم بأخبار القرية، بالتالي كان لديهم قنوات مفتوحة للتواصل مع الإعلام الأجنبي تفتقرها الحالة الفلسطينية بالعموم، كما فتحت الأسرة منزلها لعشرات المتضامنين والزوار الأجانب الذين تفاعلوا تلقائيا مع اعتقال طفلة العائلة، وهنا حضور قوي لعامل الأنسنة الذي يجعل الصحفي يتعامل مع الانتهاك بوصفه قصة إنسانية لا مسألة أرقام، وهذه كلها دروس نجاح تحتاج الحالة الفلسطينية إلى التعلم منها.

أما اهتمام عهد وأسرتها بالصورة والأداء الاحترافي أمام الكاميرا فليس فيه ما يقدح، فهذه الأدوات هي "ألف باء" نجاح الرسالة المرجوّة من المقاومة غير العنفية التي لا تسعى لإيقاع الخسائر المادية أو البشرية،  إنما لزعزعة الصورة الأخلاقية التي يدّعيها الاحتلال لنفسه، وكلما كانت الكاميرا والأداء حاضراً كلما وصلت الرسالة بصورة أبلغ، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن 9 سنوات من المظاهرات بالقرية لم تفضِ إلى قتل أو جرح جندي واحد بجراح خطيرة، لكنها في المقابل تؤدي رسالة أخرى امتد تأثيرها ليطال بعضاً من الإسرائيليين  أنفسهم ومنهم الصحفية "ليزا غولدمان" التي أسهمت تغطيتها لمظاهرات النبي صالح بجعلها تتخلى عن صهيونيتها وتعود للعيش في الولايات المتحدة رافضة أن تكون مواطنة في دولة احتلال.

ومن الجدير ذكرُه، أن النموذج الذي تقدمه عائلة التميمي لم يحاول يوماً أن يدّعي أنه البديل لباقي أشكال المقاومة، ولم تكن العائلة أو بقية أهالي القرية جزءاً من أطروحات السلطة التي تريد تقزيم المقاومة وتصفية شكلها المسلّح، لكن نموذج "النبي صالح" جاء وليداً لطبيعة الانتهاكات الإسرائيلية ضد القرية، وتوافر العناصر الأساسية لمخاطبة العالم وإيجاد قواسم إنسانية مشتركة مع الجميع، وهو مسار مكمّل لباقي مسارات النضال ضد المشروع الصهيوني.

وإن كانت عهد الطفلة الجميلة التي تعتني بمظهرها وتزيّنه بالكوفية، وتقف بثقة لتواجه جنود الاحتلال بأداء عالٍ أمام الكاميرا هي من سيصبح أيقونة لأطفال وطفلات فلسطين، فهي أيقونة مشرفة ويجب دعمها لما ترسله من رسائل تحدٍّ للاحتلال ولأدواته أيضاً التي أرادت صناعة جيل أوسلوي لا تعنيه فلسطين وقضيتها، وغاية أحلامه أن تلاحقه كاميرات برامج المواهب لا كاميرات الصحفيين والمتضامنين خلال مواجهات جيش الاحتلال.

المصدر: مدونات الجزيرة