شبكة قدس الإخبارية

الفيسبوك والنماذج البشريّة المُتكررة!

يمنى طاهر
يمنى طاهر يحكي الفيلم الرومانسي "قبل الغروب" بتلقائيةمدهشة عن مخاوف الإنسان الحديث فيالمجتمعات الرأسمالية، لا يتعرّض فقط للقصة الشهيرةلالتقاء غريبين ذات يوم - في الجزء الأول من الفيلم -وقضاء يوما كاملا من الرومانسية الخيالية البعيدة تماما عنكل ضغوط الحياة اليومية، ثم الافتراق بوعد للقاء محدد دونتبادل لأي وسيلة حديثة تُمكنّهم من التواصل إلا وفاءبالموعد، ليلتقوا بعدها مصادفة في موعد آخر بعد مرور تسعسنوات، يتبادلون الحكايا عن حياتهم والتغيّرات التي مروابها منذ افتراقهم. لست بصدد نقاش الفيلم نفسه الآن، ولكن يهمني هذه التلقائية التي عبرّت بها "سيلين" الفرنسية لـ"جيسي" الأميركي عن مخاوفها منالمجتمع الأميركي تحديدا كرمز للحضارة الغربية والهيمنة الثقافية، انتشار الجريمة، ذلك التكرار الذي يُردّد به الجميع "هاااي، صباح الخير" وكم هذا لطيف حتى وإن كان غير حقيقي أحيانا ويُخفي وراءه حزنا مكتوما أو اصطناعا، ربما من المهم معرفة أن الفيلم قام على "الارتجال" وهي طريقة لا يُكتب فيها سيناريو محدد للفيلم الدرامي، بل مشاهد عامة بعناوين رئيسية ويُطلب من الممثلين ارتجال محتوى الكلام بالطريقةالتي تُناسبهم، لهذا كان صادقا وتلقائيا ويمسّ مشكلات حقيقية يُعاني منها إنسان المجتمعات الحديثة وإن اختلفت التفاصيل وفقا لاختلافالمجتمعات. يهمنّي أيضا ذلك الرمز البصري الهام في الفيلم، لبيت "سيلين" الكائن في منطقة قديمة بباريس، الطراز القديم للبيت، الفناء الخارجي الذييجمع الجيران بمرح وألفة غير معتادة في المجتمعات الحديثة اللاهثة، السلالم المكسورة والجدار المُتشقّق، سيلين التي تركت أمريكا الرأسمالية وعادت لفرنسا بحثا عن مساحة أكثر دفئا وأكثر خصوصية وأكثر تعبيرا عنها. وبحثا عن الحُب المفتقد أيضا، بحثا عن كل ما هو "إنسانيّ" وبعيدا عن أنماط الحياة "المُتكررة". الفن "الأصيل" دائما يُمثّل بُعدا آخر للحقيقة، قادر على نقد الواقع والتعبير بصدق عن تطلعات الإنسان ورغباته وأحلامه في عالم أفضل، ويُمثل أيضا تحرُّرا وخروجا عن الدوائر القمعية التي يفرضها الواقع بضيقه وطبيعته. حين أُشير لإنسان العالم الحديث فأنا أُشير لنا جميعا، مجتمعاتنا الرأسمالية قائمة على قيم السوق ومعايير الربح والخسارة وإن اختلف الغطاء بين (علماني / إسلامي)، في النهاية يتكيف مع نفس المنظومة وإن حاول كسرها كُسر بتلقائية حتى دون الحاجة لمحاربته، نمط الحياة المدنية بضغوطاته وتوتراته، الحياة التي تفرض علينا جميعا أن نتعلم عدة سنوات كي نؤهّل للعمل ما يزيد عن 10 ساعات يوميا رغبة في مستوى معيشي مرتفع يُمكننا من تحقيق ما نُريده. ونحن إذ نستجيب جميعا لهذا النمط المألوف غير قادرين على تجاوزه، فنحن في الحقيقة لا نُحقّق رغباتنا الأصيلة في الحياة بقدر ما نُحقّق رغبة السوق (بمعناه الواسع والضيق، المحلي والعالمي)، نُحقق مصالح الشركات الكبرى في مزيد من المال والنفوذ من خلالنا، متخيلين أننا سنصلفي النهاية للحرية، غير واعين بالمنظومة القمعية التي نخضع لها وندور بداخلها. وغير واعين بأننا إذ لا نجد وقتا لفعل ما نُريد فقد تنازلنا عنحريتنا ابتداءً. في ظل هذه المنظومة يُصنع كل شيء حتى الإنسان، و صناعة الإنسان تتم من خلال تنميط حياته وتوجيه رغباته وأحلامه بما يتوافق مع المنظومة الرأسمالية العالمية، وغالبا يتم هذا بدون إدراكه بشكل واعي، وبوساطة كل شيء، كل شيء بمعنى كل شيء، ومن خلال إيهامه بأن الواقع هو ما يجب أن يرضخ له، وأنه لا يمكن الخروج من دائرته مهما حاول، وأن الحياة هكذا يجب أن يتكيف معها كما هي لا أن يسعى لتغييرها. والفارق كبير بين تكيُّف من أجل التغيير، أو تكيُّف من أجل الرضوخ باستسلام بائس للواقع. "كشف الطابع الإنساني في ثقافة الجماهير على أن تصورها للحرية مرتبط بمستوى المعيشة المرتفع، ولا يدري الأفراد أن البضائع والخدمات نفسها هي التي تقمع ملكاتهم وحرياتهم، فالأفراد عن طريق تبادل البضائع والخدمات الاستهلاكية لا يبيعون عملهم فقط، ولكن يبيعون أيضا وقتهم الحُرّ في أشكال من التنظيم يُطالعونها في الصحف وأجهزة الإعلام" (1). الأمر لا علاقة له بالمؤامرات الكونية المُضحكة والتي يتصورها البعض ويستلّ سلاحه باحثا عن المعارك للقضاء عليها، بل هو نظام عام، يُوجّه العقل الجمعي بشكل آلي وفقا له، ويطرد من هذه المنظومة كل ما يُخالفه أو يُعارضه بشكل تلقائي أيضا. أي أن الأمر يتمّ بدون تدخل عصابي كأفلام "الآكشن" الأمريكية ! بل بشكل عفوي تلقائي. ما علاقة الفيسبوك بكل هذا؟ الفيسبوك مثله مثل غيره من المُخترعات التكنولوجية الحديثة، نتاج هذه المنظومة الكُبرى التي ندور جميعا بداخلها، وبالتالي هو أيضا يحمل نفس تصوراتها ورؤاها وقيمها بشكل كامن غير واعي، وهذا يُمثّل نقطة قوة وضعف في الوقت نفسه، ضعف حين يتم الاستسلام له بشكل كامل والدوران في دائرته بمعاييره وآلياته المُحددة ودون فهم عميق لطبيعته، وقوة حين يتم استغلاله في التمرّد عليه، ولن يتمكن الإنسان منالتمرّد عليه وتسخيره لصالحه إلا بالوعي به وبخلفياته وبخلفيات الحضارة التي نتج عنها مُعبرا عن روحها. هذا الوعي يتطلب تحليلا ودراسة طويلة ومتخصصة لست أهلا لها ولا للحديث عنها، ولكن يمكن أن أتعرض لما أفهمه منها، وأؤكد أن هذا رأيي ليس بالضرورة أن يكون صحيحا أو مناسبا للجميع : مبدأ تسليع الثقافة وتشييء المعنى: أي يُصبح معيار التقييم لكل ما هو معنوي (حالة ما – صورة – إحساس صادق – تواصل بشري .. إلخ) هو معيار مادي بحت، يقوم على مبدأ الربح والخسارة، ويمكن حساب نجاحه من فشله عن طريق عدد "اللايكات" و "التعليقات". رغم أنعملية التأثير والتغيير في النفس والحياة لا تتمّ أبدا بهذا الوضوح المطلق. ولا يُعتبر هذا معيارا صحيحا لتقييم أهمية الشيء من عدمه، أو حتى أصالته أو زيفه. اقتحام خصوصية الإنسان : البعض لا ينقصه سوى أن يُخبرنا بمواعيد ذهابه للحمّام ! يمكن أن تعرف جيدا كيف يعيش وبماذا يشعر وماذا يفعلمن صفحته، هذا ليس سيئا في كل الأحوال، فنحن بطبيعتنا الإنسانية نسعى لمشاركة الغير حالاتنا وأنفسنا، ولكن المبالغة فيه خطيرة، الإنسانالذي يفقد شعوره بالمتعة، بالسعادة، بالحزن، بالفرح، بالحماس دون أن ينشر هذا على الجميع يعاني من مشكلة حقيقية، الإنسان الغير قادر على خوض تجارب هامة في حياته دون إخبار الجميع بكل تفاصيلها يُعاني من مشكلة حقيقية.. إلخ كما أنه يختصر الإنسان إلى مجرد "رأي"! أنت مطالب دائما وفي كل وقت بتوضيح موقفك ورأيك تجاه كل شيء، ويتصور البعض بسذاجة أنك إذا تجاهلت حدثا ما على الفيسبوك فهذا يعني أنك بالضرورة شخص سلبي، تعيش على هامش الحياة، فاضي .. إلخ، رغم أن الواقع مختلف تماما، وتفاعلك مع الأحداث أيضا مختلف، والأمر ليس دائما (مع / ضد)، كما أن طبيعة النقاشات الإلكترونية الفاشلة لا تُتيح النقاش إلا فيالقضايا السطحية وباختزال، أما الأمور العميقة والتي تُمثّل إضافة ومعرفة حقيقية للإنسان، فالفيسبوك هو آخر مكان يمكن أن يُناسبها فيرأيي. التكرار : هناك بعض الشخصيات الإلكترونية إن بدّلت أسماؤهم لن تُميّز الفارق بينهم، هم مجرد كائنات وهمية، تقوم بنشر كل شيء يعجبها بشكل آلي، دون تناوله بعمق، ودون التفاعل معه ومن ثمّ إنتاج ما هو خاص بها تجاهه، وهذه كارثة أخرى، أصبحنا نرى المئات من النماذج البشرية المكررة، من الآلات الخالية من كل ما هو خاص وفريد ومميز، الخالية من المعنى الحقيقي، بالتأكيد هذا الأمر يعتمد بشكل أساسي على شخصية الإنسان في الواقع، والفيسبوك ليس إلا انعكاس لها، لكنه أيضا بطبيعته الآلية المختزلة يُكرّس لهذا المعنى ويؤكده، والإنسان بدون وعي يستجيب له. ضغط الأفكار : لو كنت شخصا ذو رؤية وحلم وهدف واضح في الحياة، سيُمثل الفيسبوك مأساة بالنسبة لك، يمكن أن تدخل لتتابع الحياة هنا، فتتجاذبك آلاف الأفكار والمشاعر والأحلام الأخرى، وهذا كفيل – بالاستسلام له – إلى تشتيتك تماما. الأفكار يجب أن تُصان وتُركّز حتى تُنتج ما يستحق أن يستمر طويلا. بالطبع لا أعني "شيطنة" الفيسبوك وتصويره ككائن شرير سيبتلعنا، في النهاية أنا استخدمته لقول ما أُريد، ومن خلاله وجدت أحبّة كُثُر ربماكنت سأحتاج أعواما طويلة كي أجدهم، نتبادل النقاش والحديث المتواصل الهام وتمتّد علاقتنا خارجه أيضا، ويُمثل تواصلنا قوة حقيقية لايُستهان بها. ولا أعني أن أي نتاج من نتاجات العولمة والعالم الحديث يجب تجاهله أو معاداته، بل مقاومته من خلال التعامل معه بوعي، وهذا الوعي يستلزم بحث وقراءة ومعرفة واسعة ومستمرة، ليس فقط للتعامل مع الفيسبوك، بل لطابع الحياة الحديثة بشكل عام، والتمرّد عليها والتحرّر من دائرتها الضيقة بالشكل المناسب لكل شخص أيضا. "تُشكّل التحولات التكنولوجية والاجتماعية التي نشهدها ظاهرة تاريخية بالغة التعقيد والضخامة، يمكن لكل إنسان الإفادة منها، ولا أحد – ولا حتى أميركا ! – يستطيع التحكّم بها. فالعولمة ليست أداة "نظام جديد" يحاول "البعض" بسطه على العالم بل قد أُشبهها بحلبة ضخمة، مفتوحةمن كل الجهات، تدور فيها بصورة متزامنة آلاف المبارزات والمعارك، ويمكن لأيّ كان ولوجها حاملا خطابه وأسلحته، وسط تنافر أصوات يفلت من كل سيطرة. يبدو لي كذلك اليوم أن كلا منّا، لو عرف استغلال الوسائل المذهلة التي توجد بمتناول يده، قد يؤثر تأثيرا بارزا في معاصريه والأجيال القادمة، شرط أن يكون لديه ما يقوله لهم، وشرط أن يكون مبدعا أيضا لأن الحقائق الجديدة لا تصلنا مُرفقة بطريقة استعمالها، وشرط ألا يقبع فيمنزله مغمغما : أيها العالم الظالم ! لا أريدك !" (2) (1) كتاب : الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركيوز (2) كتاب : الهويات القاتلة - أمين معلوف عن الفيلم : http://www.imdb.com/title/tt0381681/