شبكة قدس الإخبارية

الشهيد الصفدي في عيون محبيه: بطلٌ لا تُنسى مواقفه

هدى عامر

غزّة- خاص قُدس الإخبارية: على حيطان المنزل عُلقت صوره، كتبت على حيطان الحي اسمه وعلى أبواب المحلات وحتى بسطات البيع كلٌ يعرف الشهيد ويتشرف به، وعلى الأغلب إنه ترك إرثًا لكل فرد في المنطقة من أصدقاء المسجد والباعة والأصحاب، ضحكة كان يتركها في قلب أهالي حي الدرج شرق مدينة غزّة بقيت أقوى من أن تقصفها الطائرات.

لم تكن الفاجعة الأولى لوالدة الشهيد محمد الصفدي، فقبل ستة أعوام فقدت نجلها "محمود" وهو في عمره تقريبًا، وبقيت خلال تلك الفترة كلّها تبكيه يوميًا وتذكره وتزور قبره على الدوام دون اعتياد على فكرة الفقد، حتى جاءها نبأ استشهاد نجلها الثاني وهي التي لم يبرأ قلبها بعد من اغتسال الدموع كلّ ليلة.

في التاسع من ديسمبر الحالي، أًعلن استشهاد الشاب محمد الصفدي (25 عامًا) برفقة الشهيد محمود العطل (28 عامًا) الذين ارتقيا إثر قصف الاحتلال لموقعٍ للمقاومة جنوب مدينة غزة، فجر السبت الماضي.

أسبوعٌ على ارتقاءهم، لم تزل الأحاديث تتوارد عن مآثر الشهيد ومواقفه، فيما بقيت دمعات أمّه رقراقة تبكيه اليوم كما ستبكيه غدًا، حتى يبرأ قلبها المفجوع من فقدان اثنين من أولادها، وتصبح قادرًة على استيعاب الحياة بعدهما مرّة أخرى، ومن يعرفها جيدًا يعرف إنّها لن تفعل!، كان يبكيه القلب وهو الذي وصفته بـ"أحنّ" أولادها وأكثرهم طاعة لها، فكانت لا تطلب إلا منه برغم وجود 5 شبان آخرين.

يدها الثالثة!

الشهيد محمد الصفدي في عامه الخامس والعشرين، حصل على شهادته الجامعية في الإدارة والسكرتارية، انتسب لصفوف المقاومة إبان العدوان الأخير على غزّة، وبقيّ من حينها مرابطًا ومقدامًا حتى الشهادة.

"سبع صنايع" هكذا وصفه من يعرفه، فقد كان يد أمه الثالثة حتى قالت عنّه "هو الذي يصلح الأجهزة لو تعطلت ويركّب جرّة الغاز وسخّان الكهرباء ويصلح الأجهزة المحمولة في حال حدث لها خلل، كما كان يعرف تركيب العطور وتركيزها، لكنّ لم يكن أحد يعرف بعد إنّ يديه اللتين تلتفان بالحرير كانتا ضالعتين في وحدة التصنيع التابعة لكتائب القسام أيضًا.

صباح الجمعة الماضية، خرج "محمد" بعد أن أحضر لأمه جميع أغراض أكلة المفتول التي يحبها، طلبت منه أن يبقى ليأكل منها لأنه هو من طلب إعدادها لكنّه قال لها "خليلي حصتي منها" وذهب ليداوم في الموقع العسكري في يومٍ غير يومه.

ومن دلائل اصطفاء الله له، عملية تبديل يوم الرباط، حين روت والدته أن الرباط الليلي المفروض على الشهيد الصفدي كان مقررًا كلّ خميس، لكنّه اتفق مع زميله المقاوم التبديل بين اليومين، وقرر الصفدي أن يأخذ عن زميله يوم الجمعة كاملًا بما فيه المبيت ليلًا؛ لقد كانت خطة استشهاده مقدّرة بإحكام إلهي.

شقيقاته المتزوجات يجتمعن في بيت العائلة كلّ أسبوعين يوم الجمعة، ويرونه معهم على سفرة الغداء ممازحًا ومُرحبًا بهم كما في كلّ مرة، فقد كان برغم صغر سنه مختارهم وسندهم و"حلّال مشاكلهم" فلا يتوانى في معاونتهم وإصلاح ما يشتكونه إليه.

هذه المرة، لم تجده شقيقاته معهم، وحين سألوا عنه أجابت الوالدة إن لديه التزامات اليوم ولن يستطيع أن يتواجد معهم، ولذا فقد حرموا من رؤيته، وافتقده أطفالهن طيلة الجلسة وهم يسألون "وين خالو أبو يزن؟!".

تقول شقيقته الوسطى فرحانة الصفدي لـ"قُدس الإخبارية"، إنها كانت تشعر بأنّه الأقرب لهم لممازحته وترحيبه، كما أنها كانت ترى فيه نسخة من أخيها المتوفي قبل سنوات، فقد تشابها في الحنان والشكل والشبه المتقارب جدًا، مضيفة "كانا نسخة طبق الأصل من بعضهما"

وأوضحت، "في الفترة الأخيرة كان حنونًا جدًا وكلما رآنا في بيتهم ردّد "والله يا أهلًا وسهلا يختي نورت يختي يا مية مرحبا" كان يحمل أطفالنا ويلاعبهم ويمازحنا وينشد إلينا، مضيفة "شعرت حينها أنه صار يشبه محمود كثيرًا وخفت حقيقة من فقدانه".

من سيلغ أمه باستشهاده!

وعن لحظة تلقيها الخبر، تقول فرحانة: " كنت في بيتي صباحًا وأنا أتساءل عن قصف الفجر وما نتائجه، حينها أجابني زوجي أن هناك مصابًا اسمه محمد الصفدي"، "قلت لزوجي هذا مش مصاب هذا شهيد وهذا أخي محمد" فما كان من زوجي إلا أن قال "المحمدات كثار بالعيلة مش بس أخوكِ" في محاولة منه لتهوين الصدمة، لكنّ نار الفقد لا يهونها شيء.

"عرف أخوة الشهيد الذكور بنبأ استشهاده لكنّهم أخذوا يفكرون كيف سيخبرون والدتهم التي لا زالت مفجوعة بوفاة نجلها السابق، اتفقوا حينها على إبلاغ زوجاتهم، ثم إبلاغ أخواتهم الفتيات في البيت، ليهونوا عن والدتهم وقع الخبر" تروي شقيقته.

"زوجات أبنائها، وبناتها أخذوا يتنقلون من غرفة لغرفة ويكتمون كلامهم ودمعاتهم وفي داخلهم يكذّبون فكرة رحيله، حتى ذاعت الأنباء صباح السبت ونشرت الأخبار المحلية اسم الشهيد، أحست والدته بأمر مريب، وأخذت تسأل كنائنها وبناتها "شو مالكم في اشي؟ محمد فيه اشي؟" أخبروها أنه مصاب لكنها صرخت وقالت: "استشهد"!.

والدته الصابرة الثكلى وقع الخبر عليها كالزلزال وهي تقول بقلبٍ مفجوع "والله لسا ما بردت نار محمود، كيف بدي أتحمل غيابك يمّا، يا حنون، مين يطاوعني يمّا؟ مين يناولني؟ مين يضل معي يمّا يا مرضي، الله يرضى عليك" وكانت بعدما تهوّن عنها النسوة والجارات تقول "جايين تهنوني فيه مشان ابني شهيد، هنّوني فيه ().

وفي لحظة الوداع عقب نقل جثمانه إلى المنزل، تقول شقيقته "لأول مرة نرى وجهه نورًا هكذا، احتضنته أمي بقوة ومنعت الشباب من إخراجه لتشييعه، تمسكت به وأخذت تصرخ ممنوع تاخذوه خلوه عندي ممنوع تاخذوه"، أخذوه منها فوق رغبتها، ثم نادت على ابنها الأصغر وقالت له "جيبلي أخوك يمّا".

عمله العسكري

من صغره، كان يتمنى محمد أن ينتسب لصفوف المقاومة في كتائب الشهيد عز الدين القسام، فهكذا ربتهم والدتهم وأشبعتهم حب دين الله والوطن، وسيرًا على خطوات شقيقه الشهيد محمود الذي كان أبرز مقاتلي وحدة الكوماندوز البحرية للمقاومة ومدربًا عسكريًا فيها.

قبل نحو 3 أعوام، وبعد فترة طويلة من العمل الجماهيري والمشاركة في دعم المقاومة مجتمعيًا، وبعد أن طلب مرارًا من الشباب أن ينضم إليهم في المقاومة، كان له ذلك، حتى فاضت عيناه بالدموع وأخذ يكبر ويضحك ولم ينم ليلته من الفرح، بحسب ما أخبر رجال المقاومة عائلته.

كان الأول في كلّ شيء، في التضحية والفداء والطلب والإقدام، وكثيرًا ما كان يبدي استعداده للتحرك والمبادرة، كانت طاقته أكبر منه، بدأ العمل مرابطًا ثم مقاومًا ثم انتسب في الفترة الأخيرة إلى وحدة التصنيع، وتسببت في البدايات بإحداث حروق في جسده لكنّ لم يعرف أحد سببها الحقيقي حين أوعزها إلى حدث طارئ مسبقًا، لقد قدم الشهيد من جسده وماله وطاقته كلّ ما يستطيع فداءً وحبًا ورغبة في الشهادة.

يرغب الحور

كثيرًا ما كانت والدته تسأله عن رغبته بالزواج لكنّه في كلّ مرة كان يقول "بديش أتجوز يمّا بديش من الدنيا"، وبقي على هذا الحال لأكثر من عام، لكنّه وبعد إلحاح والدته وشقيقاته قال آخر مرة "بيصير خير"، وبدأت والدته بعمل جمعية له وتجهيز شقته وقررت أن تزوجه الصيف المقبل.

أما بعد استشهاده، قالت والدته "كنت بدي أجوزك يمّا، لكنّك لم تكن تريد نساء الدنيا، لم تكن لترتضي واحدة بل سبعين من الحور، فرحتي بكَ أنك في الجنة وهناك الملتقى والأمان، وهذا ما قاله في وصيته أيضًا".

شهيدٌ لا ينسى!

إن كان أحدٌ لا يعرف محمد فليقف وسط حي الدرج شرق غزة ويسأل عن "أبو يزن" الضاحك البشوش ابن المسجد وصاحب الصوت النديّ الذي لطالما شهدت عليه جدران المسجد ودوّى صوته في سمّاعاته تاليًا القرءان ومنشدًا لأناشيد المقاومة وفلسطين، كما كان محفظًا للقرآن ومعه درجة السند في تلاوته.

يقول رفاقه في المسجد، "إن الكثير من المواقف التي جمعتهم مع الشهيد محمد لا تنسى، لا سيما في ليالي الاعتكاف للعشر الأواخر من رمضان، فقد كان يلزم المسجد ويرافق الشبان ليل نهار".

وأضافوا لـ"قُدس الإخبارية"، أنه كان دومًا يوقظهم ليلًا للاعتكاف والصلاة بطريقته الخاصة، فقد كان يجول في أطراف المسجد ويتلو آية قوله تعالى "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض" بصوته الندي حتى يوقظ الجميع للصلاة.

ويذكر أحد رفاقه موقفًا له ضاحكًا فيقول "ذات ليلة كان أحد الشبان نائمًا بعمق في المسجد بعد صلاة طويلة، حتى أتاه الصفدي ليوقظه وهو يتلو عليه الآية وكان يرتدي حينها جلابية بيضاء ويضع عطرًا صنعه بيده استعدادًا للعيد، فما كان من النائم إلا أن اعتقده ملاكًا واستيقظ لاحقًا وأخذ يروي كيف رأى ملاكًا طيب الرائحة يتلو القرآن ويوقظه، حينها ردّ محمد "ولك هاظ أنا" وانفجروا ضاحكين.

يده مخرومة!

بعد استشهاده، قرر أخوته سؤال الناس عمّا إذا كان الشهيد له دين على أحد، ليقوموا بسداده عنه، لكنهم فوجئوا بأنّه يريد من الناس الكثير ولم يكن ليطالب به حتى وإن طال، وأنه لم يردّ ولو لمرة واحدة حاجة لأحد ولم يترك باب خير إلا طرقه.

أحد المواقف عن كرمه روته عائلته وأصدقائه كذلك، فأحد أصدقائه قال إن "أبو يزن" كان قد وعد رفاقه الشباب بـ"عزومة"؛ إذا دفعت له الحكومة راتب عمله لشهر واحد على بند البطالة، وقد كان منتسبًا ضمن مشروع جدارة لتشغيل الخريجين ولم يتلق راتبه المقرر أنه 300$.

أما شقيقته فقالت إن الشهيد محمد قال لأمه قبل استشهاده "لو أعطتني الحكومة المصاري، سنقسمهم لثلاثة أقسام، فلكِ منهم 100$، ولأختي 100$ منّي، والأخيرة لي" وقد كان يخطط أن يجمع رفاقه ويوزعها.

قدّم الشهيد أعمالًا تطوعية كبيرة، فقد كان مدربًا للسباحة دون مقابل مادي، وكثيرًا ما قدم خدمات وساهم بأعمال كثيرة دون أن يرتضي أن يأخذ مقابلها أجرًا، فكان يلبي طلب الجميع لو كان قادرًا، حتى أنه كان يطبع أبحاث تخرج زملائه ويساعدهم دون مقابل".

كان محبوبًا بشكل كبير، ومن الجميع، فلا عجب أن يبكيه الأطفال قبل الكبار، وقد كانت ابتسامته عنوانه، وصوته سلوانًا للقلوب المتعبة، ومواقفه عصيّة على النسيان، وفي كلّ يوم يحدّث أحدهم بموقفٍ جديد تترابط فيه خيوط سريّة كان يكتمها الشهيد محمد ويفعلها بصمت.

ولم تزل الفيديوهات التي تُنشر له عبر مواقع التواصل من جهات مختلفة تبهج الدنيا بصوته الجميل حتى بعد رحيله، فقد كان يحب بعض الأناشيد ويكرر ترديدها، وكانت أكثرهم قربًا منه الأنشودة التي رددها قبيل استشهاده "صبرًا يا نفسي معنا الله، ورحاب القدس، ورحاب القدس صرخت آآه"

في وصيته الأخيرة أيضًا، لم تغب هذه النشيدة كذلك، فقد رددها طالبًا من رفاقه في كتيبة المقاومة أن يبقوا على العهد وأن يلبوا نداء القدس والأقصى وأن تبقى فلسطين بوصلتهم وشعارهم، وهو الذي ارتقى مقاومًا على طريق القدس وفي انتفاضة ثأرها.