شبكة قدس الإخبارية

ماذا بعد قرار ترامب؟

محمود الصفدي

قد يكون هذا السؤال الأكثر تداولا، وحديثا في وسائل الإعلام وفي أحاديث السياسة، فقد وضع قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس القضية الفلسطنية أمام منعطف هام وخطير، بل وضع برامج القوى السياسية الفلسطينية جميعها أمام تحديات جديدة إذا لم تحسن في اختيار الردود العملية ستؤدي بالقضية وبالفصائل الفلسطنية إلى قارعة الطريق.

لقد جاء قرار ترامب في ظل حالة من التراخي تعيشه القوى الفلسطينية في الضفة المحتلة، نتاج حالة الملاحقة الأمنية من قبل قوات الاحتلال، وكذلك من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ما أفقدها إمكانية العمل على تأطير أي فعل جماهيري ويمكن تلمس ذلك في إخفاق الفصائل الفلسطينية بالضفة من استثمار هبة القدس وهبة الأقصى  السابقتين. ونرى حاليا أن الفصائل متشابهة بمواقفها اللفظية والإعلامية، لكن على أرض الواقع فحجم المشاركة  بالتحركات والمظاهرات مختلف، فحماس بالضفة تقريبا مشاركتها محدودة، وأما فصائل اليسار تريد التصعيد وديمومة المواجهات للوصول للإنتفاضة الشعبية، ولكن بالواقع تأثيرها محدود وقدراتها متواضعة.

أما الوضع في  قطاع غزة يختلف نسبيا، نتاج العمل الوطني العلني، وما يرتبط به من تأطير للطاقات والإمكانيات في تشكيلات قتالية تستطيع  العمل على توتير الأوضاع المحيطة في قطاع غزة، وبرأي أن ما يمنع قوى المقاومة من استخدام إمكانياتها القتالية في المواجهة يعود للأسباب التالية:

1. الخسائر المادية والبشرية التي قدمها الشعب الفلسطيني في القطاع في المواجهات السابقة.

2. حسابات حركة حماس السياسية وعملها الدائم على ضبط ايقاع العمل ضد الكيان الصهيوني .

3. افتقار باقي القوى الى الامكانيات والتجهيزات التي تخولها دخول المعركة بمعزل عن حماس .

4. الإرهاق النفسي والمعنوي الذي أصاب المواطنين نتاج الحصار، وما رافقها من عقوبات فرضت على القطاع شملت الخدمات الصحية والطبية، والكهرباء والمياه... إلخ.

إن غياب البرنامج السياسي الموحد للقوى الفلسطينية يساهم في إضعاف إمكانية تواصل وامتداد واشتداد التحركات الجماهيرية، لقناعة الشارع أن المستوى السياسي غير مهيأ للعمل على تطوير الفعل الجماهيري، وصولا لإنتفاضة شعبية عارمة بسبب ارتباطات ومصالح الفئات المتنفذه في م . ت. ف. والسلطة والتي تتقاطع  مع التسوية، على سبيل المثال رفع وتيرة العمل وتبني السلطة الفلسطينية رسميا للحراك الشعبي يتطلب وقف التنسيق الأمني والدخول بمواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال التي تستبيح  المدن والقرى الفلسطينية، وهذا السيناريو يحتاج إلى إمكانيات مالية ولوجستية بأن تمتلكها السلطة. فأذا توقفت "اسرائيل" عن دفع فاتورة الضرائب، لن تستطيع السلطة إدارة مؤسسة واحدة بالوطن. مشروع التسوية وما يترتب عليه من توظيف لأكثر من 150 ألف موظف خلق قاعدة اجتماعية ترتبط بوجودها باستمرار عمل السلطة وهذه الفئات لن تتنازل عن مصالحها المرتبطة بوجود السلطة من أجل شعارات لا تجد لها حوامل على الأرض.

وقد تعاملت السلطة الفلسطينية مع الأحداث وفق سياسة "التنفيس" فمن جهة فتحت المجال أمام الشبان والنشطاء من التعبير عن حالة الغضب بالكتابة والتظاهر وحتى لا تظهر بمظهر المتواطئ. فالسلطة تركت المجال للحراك لإدراكها أن حجم الفعل محدود، وستستند بالمستقبل الى هذه المحدودية لتبرير موقفها، ولكن من جهة أخرى عملت ومن خلال أجهزتها الأمنية على منع تصاعد المواجهات وخاصة "بالأماكن الحساسة" كنقاط التماس أو المؤسسات التابعة لأمريكا، كما حصل بالاعتصام الذي قررته القوى الوطنية أمام البيت الأمريكي في رام الله، وهو بمثابة قنصلية زمريكية حيث حضرت فتح والغالبية كانوا من الأجهزة الأمنية، بلباس مدني وبرفقة سيارات عليها مكبرات للصوت، وقادوا المسيرة لمنطقة أخرى بعيدة عن البيت الأمريكي وهكذا فرقوا المتظاهرين بذكاء.

والجدير ذكره أن صحيفة "يديعوت احرنوت" ذكرت أن ماجد فرج رئيس جهاز الإستخبارات الفلسطينية كان قد تعهد بعدم حدوث "فلتان امني" بمناطق السلطة الفلسطينية. ومع ذلك هناك تباين بالمواقف داخل حركة فتح، بل ونقاش عاصف. فهناك من هم مع التصعيد وتوسيع رقعة الاحتجاجات والمظاهرات ويمثل هذا التوجه عباس زكي ومحيسن، ومن جهة أخرى هناك التيار الدبلوماسي المهادن الذي يبحث عن حلول سلمية بعيدا عن العنف، يمثله رئيس السلطة أبو مازن وعريقات وعزام الأحمد وغيرهم.

أما عن كيفية تعامل المؤسسة الامنية والعسكرية الإسرائيلية فقد ظهر على أنه يتعامل مع هذه الهبة الراهنة، كحالة "مؤقتة" يمكنه التعايش مع مفاعيلها. وهناك ترجيح بالإعلام الصهيوني بأنه لن تكون هناك انتفاضة ثالثة، بالطبع هذا الإمر موجه لإيهام الشارع الاسرائيلي والعالم أن هذه هي "حالة عابرة " وتنتهي. وهم صوروا الإمر كأنه مشكلة بين الفلسطنيين وأمريكا،  وإن إسرائيل لا دخل لها بالامر، من إجل التهرب من دفع الثمن.

رغم أن صحيفة "يديعوت احرنوت " ذكرت، "أنه من الخطإ الاعتماد على عدد المشاركين بالمظاهرات، حتى نعرف حجم الغضب الفلسطيني على قرار ترامب، بل يجب رؤية ما يكتبه الفلسطينيون على صفحات التواصل الاجتماعية ..".

بالطبع هذا من الممكن أن يحدث وأن لا تتطور هذه الهبة إلى إنتفاضة ثالثة كما حصل بالهبات السابقة، والسبب برأي لأنها تستند على حجم المشاركة الجماهيرية في التحركات التي تنحصر بالطلاب والشباب، والعدد متغير، الأنشطة بشكل عام لا تشكل تهديد حقيقي، نظرا لمحدودية مناطق الاحتكاك في قطاع غزة، وفي الضفة والقدس تحاول "اسرائيل" تجنب ايقاع شهداء تحسبا من توسيع دائرة المشاركة الجماهيرية.

لقد اجتمع قائد أركان جيش الاحتلال "ايزنكوت" قبل إعلان ترامب بقادة الجيش بالضفة وأبلغهم بضرورة ضبط النفس في حال اندلعت المظاهرات وطلب منهم "صفر شهداء" وهذا بالطبع ليس توجها إنسانيا بل هو دهاء وخبث، هذا إلى جانب اعتقال وعزل المؤثرين والقادة المحليين. وكذلك فقد ضبط السياسين والأمنيين تصريحاتهم، وكذلك الإعلام الصهيوني ضبط نفسه وابتعدوا عن الإستفزاز  والتحرض كما حدث بهبة الأقصى التي أرادوا خلالها إثبات أنهم هم المسيطرون على المدينة والأقصى. ولكن هذه السياسة قد لا تطول وتعود قوات الاحتلال ألى سياسة القتلال والقمع الوحشي والمفرط ضد الفلسطنيين.

أما في قطاع غزة فقد استخدم الاحتلال أساليب قمعية  أكثر شدة مع المتظاهرين هناك.  لإدراكها أن حماس لن تقدم على فتح جبهة غزة عسكريا، ولمحدودية الآثار التي تترتب على الحراك الجماهيري .

ومؤخرا، زجرى قادة عسكريين وأمنيين صهاينة، مقارنة بين هبة الأقصى الأخيرة التي جاءت ردا على تركيب البوابات الالكترونية، وبين الهبة الحالية، وخلصوا إلى: أن هبة الأقصى كانت عنيفة وحاشدة، لأن الحديث كان يدور عن مكان مقدس وحساس للفلسطنيين والمسلمين عامة، وكان لدى الفلسطنين قناعة أنه بالإمكان تغيير القرار الاسرائيلي،  في حال استمرت واتسعت موجة الاعتصامات والمظاهرات، وهذا ما حصل بالفعل فيما بعد. بينما بالهبة الحالية الحديث يدور عن قرار زمريكي سياسي وحول القدس، ولا أثر مباشر على أرض الواقع، عدا عن شعورهم أن هنالك تواطئ عربي.

برأي هناك سؤال هام وهو:

هل يمكن وضع سيناريو للحفاظ على ديمومة هذه الهبة وتحولها لانتفاضة شعبية في ظل هذه المعطيات؟

إن نتائج الاجتماعات "وزراء الخارجية العرب" و "القمة الإسلامية" وما تمخض عنهم من قرارات لم ترتق لحجم التحديات التي تمر بها القضية الفلسطينية سيضع الفلسطينيون أمام خيارين:

الأول: التعايش مع المرحلة بكل ما تحمله من ماسي وإحباطات.

الثاني: رفع وتيرة العمل الجماهيري .

الحالة التي نعيشها تشبه في بعض جوانبها الظروف التي سبقت الإنتفاضة الاولى عام 1987 حيث عقدت القمة العربية في الأردن، وكانت التوجهات العامة للنظام الرسمي العربي تصفية م. ت. ف فجأت الانتفاضة كرد طبيعي لشعب يعيش تحت الاحتلال، مما أعاد للقضية مكانتها عربيا ودوليا.

أعتقد أن الأمكانية للأستفادة من قرار ترامب في هذا السياق ممكن، إذا توفرت العناصر التالية:

1. شحذ المعنويات ورفع الوعي إعلاميا، من خلال تسليط الضوء على الإنتفاضة الأولى وانتصار المقاومة في جنوب لبنان.

2. استثمار التوزع الفلسطيني في كل العالم لتفعيل الحراك العالمي المناهض للقرار الأمريكي، وتفعيل لجان BDS للضغط على الإدارة الأمريكية من خلال مقاطعة المنتجات الأمريكية في العالم العربي والإسلامي .

3. المقاطعة الشعبية لكل المؤسسات الثقافية والأكاديمية والتجارية الأمريكية. فالمرحلة التي نعيشها تتطلب حرب الشعب في مواجهة النظام الرسمي العربي، والمصالح الإمبريالية، لا أحد يستطيع فرض شرب الكولا أو شراء أجهزة " ابل" أو السيارات أو المواد الغذائية على المواطنين، نحن أمة نعد بالمليار، ومقاطعة المنتوجات الأمريكية شعبيا يعني خسائر بمئات المليارات.

4. التوجه ألى المؤسسات الدولية والحقوقية وخاصة محكمة لاهاي من أجل ملاحقة ومحاكمة قادة الكيان وضباطه على الجرائم التي ارتكبوها بحق شعبنا.

5. إن أغلب المحللين العسكريين لدى الكيان يؤكدون أن الخشية والخوف هو تنفيذ عمليات فردية، فهذا النوع من العمليات لا يمكن منعه أو الوصول إلى المنفذين قبل القيام بالعمليات. أعتقد أن من المتوقع بين الحين والآخر تنفيذ مثل هذه العمليات، لكن يجب أن لا تصبح بديلا عن المسيرات والمظاهرات الشعبية، فهي الاساس بمواجهة الاحتلال.

6. توحيد جهود القوى والفصائل الوطنية والأسلامية بحيث تشكل الحاضنة التنظيمية لهذا التحرك من خلال الاتفاق على برنامج سياسي وكفاحي مشترك، وهذا يلزم تشكيل قيادة موحدة شبابية تقود هذه الهبة، كما كان بالأنتفاضة الأولى .

هذا الرد الشعبي وهذا الحراك يكون الرد الطبيعي على قرار ترامب الغبي.