شبكة قدس الإخبارية

من تركة الشهيد باسل الأعرج.. فقه العمليات المعاصرة

باسل الأعرج

تدور الطروحات التي ترفض عملية الشهيدين عدي وغسان أبو جمل، التي نفذاها داخل كنيس يهودي بالقدس المحتلة حول عدة نقاط وتحمل في داخلها تساؤلات مشروعة وتخوفات منطقية يجب التدارس فيها والإجابة عنها.

تراوحت أسباب رفض العملية بين رفض "العنف" مطلقا لعدم الجدوى، والبعض يرفضها بسبب ظروف العملية ومكانها وسؤال أخلاقيتها وينحسب هذا على تخوف لا ينفك في أن يفرض نفسه على الساحة "التخوف من تحول الصراع إلى صراع ديني"، وأيضا طبيعة الأدوات المستخدمة في العمليات الحالية والتي طرحت هواجس عدة، وهناك أطروحات تناقش العملية من وجهة نظر استراتيجية وتكتيكية وهذه سنتركها هنا.

بداية تعالوا إلى كلمة سواء ولنتفق على عدة نقاط:

أولها: أن هذا صراع وجودي بين قوة استعمارية وبين شعب مضطهد.

ثانيها: أن هذا الاستعمار الصهيوني هو نوع مختلف لا يتطابق مع أي نموذج استعماري اخر وإن كان له تشابه مع نماذج الاستعمار الاستيطاني الاحلالي في "اميركا واستراليا ونيوزيلاندا وكندا وتسمانيا"، في أن هذا المشروع كان يعي ذاته مسبقا عكس النماذج الاخرى.

ثالثها: أن نتجرد في النقاش والتحليل من أمانينا ونرضخ لواقع المجتمع في التحليل والتفكيك والتشريح وليس لعالم ومجتمع اخر متخيل نرسمه وفق الهوى.

اذا اتفقنا على هذه الامور فأكمل القراءة.

بداية يجب أن نتعامل في رؤيتنا وتحليلنا للمجتمع ومواقفنا الأخلاقية والسياسية بما يتناسب وخط الجماهير وواقعهم، وعلينا إدراك أننا كفلسطينيين نعيش في زمانين، زمان عالمي، ما بعد حداثي يحمل أخلاقياته وقيمه وفلسفته، وزمان فلسطيني استعماري، يعود لعصر سابق وظروف سابقة ويحمل أخلاقيات وقيم وفلسفة أخرى.

علينا الإقرار أن الناظم الأول والأساسي والرئيسي لأخلاقيات وأحكام المجتمع الفلسطيني هو خليط بين أحكام الدين الإسلامي والعادات والتقاليد والثقافة والقيم المحلية التي ترسخت عبر العصور من ثم يأتي القانون، ولا تحتل مقولات "الانسانية" المشتقة من القانون الدولي وميثاق حقوق الإنسان والشرائع الدولية والقيم الليبرالية السائدة في عصر العولمة إلا آخر الهرم في نواظم أخلاقيات المجتمع الفلسطيني.

وبما أن الدين هو أحد النواظم الرئيسية للأخلاق في مجتمعنا فإن الفقه الإسلامي تأخر كثيرا عن مجاراة الحداثة وتطوراتها على البشرية، ولم يحدث أن تعامل الفقه الإسلامي مع حالة شبيهة بحالة فلسطين سابقا، ولم يتم حسم كثير من الأحكام الفقهية في ظل الدولة القطرية القومية وطبيعة الحرب الحديثة، لذلك لا تنفع مقولة "لا تقتلوا صبيا ولا امرأة ولا شيخا كبيرا ولا مريضا ولا راهبا .... إلا لا يقتل راهب في صومعة"، وهذا الحديث النبوي وإضافة أبو بكر لا ينطبق على طبيعة الحرب الحديثة واشتراطاتها وآلياتها وأسلحتها وتعبئتها واستراتيجيتها وتكتيكها ولا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الصراع في فلسطين، وذلك نتيجة لعدم الاجتهاد والتجديد في الفقه بما يتناسب ومسائل العصر، فنجد أنفسنا مضطرين لاشراك العادات والتقاليد والقيم المجتمعية مع الحكم الشرعي لأنها أكثر مرونة واستجابة للتطورات والقابلية للتجديد.

فالفقه الإسلامي حرم قطعا الاعتداء وأوجب الدفاع ورد المعتدي، وهذه قاعدة لا اجتهاد فيها وتصلح لكل مكان وزمان، فإذا اتفقنا أن كامل مجتمع العدو هو معتدٍ، وجب علينا رد الاعتداء ولا حرمة لدم أحد منهم، وبما أن هناك قصورا في التجديد الفقهي فإننا نحتكم لقيم المجتمع في بعض المسائل، فمثلا قتل الأطفال يرفضه المجتمع قطعا لأنه لا يرى في هذا "مراجل" ولأن الطفل لا يملك أمره، أما المرأة والشيخ فإن طبيعة الحرب الحديثة سمحت لهما أن يكونا فاعلين أساسيين في الحرب فهما معتديان كما غيرهم من الرجال.

وقد اتفقنا أن هذا صراع وجودي لن ينتهي الا بنهاية أحد الطرفين أو رضوخه لاشتراطات الآخر، وفعليا لم نترك وسيلة في محاولة حل الصراع إلا واستخدمناها، ليتكشف لنا أن الصراع العنيف المباشر كأساس لطبيعة الصراع هو الحل مع ترك مساحات لكل وسائل وأدوات واستراتيجيات متاح استخدامها في وضعنا.

ولسنا هنا في صدد مناقشة تحديد أفضل وسيلة لحسم الصراع لكن نتفق جميعا أنه من حق الفلسطينين استخدام كل الوسائل المتاحة له في رد العدوان عليه والدفاع عن نفسه، وتحدد قواعد الاشتباك وأخلاقياته عبر الصراع القائم والمعادلات والتوازنات التي يتم فرضها.

فإن كان لا يراعون حرمة لمكان عندنا فإنه لا حرمة لأي مكان عندهم، وإن كنا سنصنف الحرمات، فالدين رأى حرمة دم البريء أكبر من حرمة الكعبة، والمجتمع الفلسطيني يرى حرمة البيت فوق حرمة دور العبادة، فاذا احتكمنا للناظمين الاساسيين هنا فان مهاجمة الكنس لا غبار عليه بالاضافة إلى أنها تستخدم كتجمعات للتحريض والاعتداء والتنظيم للمستوطنين (فخر المشروع الصهيوني وحملة لواءه ورواده)، فإن كان لا يستخدم للعبادة فقط ويتعدى دوره الديني ليلعب وظيفة استعمارية فلا حرمة له، وإن كان ضرره أكبر من نفعه على البشرية (على افتراض اتفاقنا ان الاستعمار خطر على البشرية) فهو ومسجد الضرار الذي هدمه الرسول سواء.

إلا إن هناك مقولة "تحول الصراع إلى صراع ديني" ولا أدري ما المقصود بهذا وقد اتفقنا مسبقا أنه صراع وجودي استعماري احلالي استيطاني يقوم على محاربة كل عناصر هويتك ويهاجمها فإن الدين جزء منها، ولا تخشوا أن تقولوا أن هناك عداء للإسلام من عدونا (عشرات المرات سمعناهم يشتمون النبي محمد)، هذه حرب إبادة على كل عناصر الهوية ألم يسرقوا حتى التطريز والحمص والفلافل والمقلوبة فلماذا ننفي الدين ها هنا؟؟

والإدعاء بأن الصراع لم يكن وجه من أوجهه دينيا فيه حرف وتجديف عن الحقيقة، فإن أول فرز للمعسكرات في القضية بعد الانتداب كان فرزا دينيا، وقد بدأت مقاومة المشروع الصهيوني في عصر الانتداب بإنشاء الجمعيات الإسلامية المسيحية لمواجهة الجمعيات اليهودية في عشرينات القرن الماضي، لنحمل الهوية القومية في الفرز لاحقا ومن ثم الهوية الوطنية.

ولا بد من القول بإن طبيعة الصراع يحددها طبيعة المتصارعين، والمعتدي هو من حدد ساحة الحرب وهو من بدأ ولسنا نحن، ولسنا من حددنا ساحات الحرب ومجالاتها وحربنا هي حرب دفاعية بحتة.

ويجب الإقرار بأنه هناك عداء وكراهية لليهودية في داخل أغلب الفلسطينين ومن يتحمل المسؤولية هذه هو من استخدم اليهودية ورموزها وأساطيرها ومقولاتها وكتبها لتمرير وتبرير المشروع الاستعماري وليس الضحية.

ومن المجحف استحضار صورة غولدشتاين ومجرزته في الخليل ومقاربتها او تشبيهها بعملية الشهيدين عدي وغسان أبو جمل داخل الكنيس اليهودي في القدس، فان اطرافها مختلفين، معتدٍ ومعتدى عليه حتى لو تشابهت الصورة، كأن نساوي قتل المغتصبة لمغتصبها بقتل المغتصب لضحيته فقط لتشابه الظروف.

أخيرا في هذا المجال لربما من الواجب القول إنه من غير الممكن أبدا نفي الدين خارج المجال العام والصراع ما دام يشكل حيزا كبيرا في هوية ووعي المجتمع، وما دام يملك في داخله قدرة على تحفيز الناس وتعبئتهم ضد العدو.

لحق هذا النقاش نقاش اخر يرتبط بتخوفات كبيرة أيضا ونتقبلها برحابة صدر وحسن نية، فهناك خوف إقليمي محلي من ظاهرة داعش واستحضار الصورة عند البعض جاء من استخدام السلاح الابيض في القتل.

يحمل الفلسطينيون الآن سؤال "كيفية ايجاد الفعل" في ظل أدوات الضبط الاستعمارية المفروضة علينا، والظروف الموضوعية التي تحيط العمل المقاوم تدفع باتجاه استخدام أدوات بدائية في القتل، والتي لطالما ارتبطت بالمستضعفين فسكان أميركا وأستراليا الأصليين كانوا يرون استخدام السلاح الأبيض شجاعة أكبر وفضيلة من استخدام السلاح الناري، واستخدام السلاح الأصغر على السلاح الأكبر (البلطة على الرمح) وقد استخدم الفيتكونغ البامبو في حربهم ضد الاستعمار بالإضافة للأفاعي كذلك، ألم تنطلق في أواسط الثمانينات ثورة السكاكين في فلسطين وتصبح البلطة أيقونة الردع في الانتفاضة الأولى لنغني "من كل حيطة وبيت طايحين بالسطاطير وبالسكاكين".

هذه أسلحة المستضعفين وإن أردنا محاكمتها أخلاقيا فإنها أكثر أخلاقية وإنسانية من الأسلحة المتطورة الحديثة من مثل البراديتور والصاروخ الموجه، تلك الأسلحة الحديثة جاءت كأدوات للإبادة للبشر وليس لحسم الصراعات، ولتقليل الشعور بالذنب والمسؤولية الأخلاقية والضغط النفسي جراء عمليات القتل الواسعة (رواد هذه الادوات كان الالمان في صنع الافران واستخدام الغازات).

هذه هي الأدوات المتوفرة والأسلحة التي باليد فان توفر غيرها اكثر تقبلا من الانسانيين فمرحى.

ويتم استحضار داعش في محاولة لثني المجتمع عن خوض انتفاضة / ثورة، عبر القول بأن المصير هو قدوم ظاهرة داعش، فإن كان البعض يحمل في داخله تخوف حقيقي على المجتمع فإن البعض الاخر يحاول الحفاظ على مصالحه الذاتية وامتيازاته في المنظومة الحالية.

في هذا نقول، إن انطلاق ثورة فلسطينية هو النموذج الأقدر على محاربة ظاهرة داعش وتوجيه العنف ضد العدو سيحل كثير من تناقضاتنا الداخلية، ويوفر فاتورة دم كبيرة ندفعها في المنطقة، حرب ظاهرة داعش لا يتم بالاستنكار والتخوف بل بايجاد نموذج ثوري واعي قادر على إعادة بث الروح الوحدوية في كل المنطقة ضد عدو مشترك، وهذا سيخفف من الخزان البشري الاحتياطي المحتمل لان ينضم لداعش ليتحول الى خزان بشري داعم للحرب ضد العدو الصهيوني، وفاتورة الحرب ضد العدو هي الاقل ثمنا من اي حرب اخرى في المنطقة.