شبكة قدس الإخبارية

إني رأيت اثني عشر قمرًا ودماءهم شاهدين!

هدى عامر

غزّة التي تقتات على الحزن ودموع الأمهات وتطلق من قهر قلبها دم الثورة، لا أوان لوقف نزفها سواء كانت في سلمها وهدنتها أم في معركتها وحروبها، فالموت لا يزال يلاحق خيرة شبابها عمومًا، وهذا مما يحسب لها لا عليها، وأغلب الظنّ أنها خيرّة لا ينضب الخير فيها.

لسنا في مستعرض مدح غزة تحت تبطين الرثاء، فنحن أقل بكثيرٍ بالغ من الوقوف أمام قطرة دم شهيد واحدة، قطرة قادرة للمرة الألف أن تعرّينا أمام عجزنا وتعيد بوصلة الروح إلى المكان الذي نُضلّ عنه ولا يعيدنا إليه إلا الدمّ.

لقد فجّرت قضية استشهاد المقاومين الاثني عشر عددًا من القضايا التي اختلطت بشكلٍ يدعو للحيرة، وعن كم الأمور المثارة أمام الدم، دون السؤال لمرةٍ واحدة وبصوتٍ عالٍ "من أبقى مِن من؟ من يستحق؟ من أقوى؟" وأظنني في كل المرّات منحازة للدم، وللروح، ولليدِ الحفّارة.

لقد كانت "الأنفاق" في التاريخ الفلسطيني الحديث، شاهدة على مقاومة نوعيّة، أذهلت العدو وصنعت فارقًا مشهودًا في الصراع، فليس بعيدًا عن خانيونس، حين كانت المقاومة في رفح تنفّذ أول عملية فدائية باستخدام الأنفاق، وفجّرت ما يعرف باسم موقع "ترميد" العسكري في رفح جنوب قطاع غزة، وذلك بتاريخ 26 أيلول/ سبتمبر 2001.

حينها قامت عناصر "القسام" آنذاك بحفر نفق طويل يصل إلى أسفل الموقع وتفجيره، ما أسفر عن مقتل خمسة جنود إسرائيليين وجرح 30 آخرين، باعتراف جيش الاحتلال، إضافة إلى عدد من التجارب العسكرية بين عامي 2004-2006م، وما تلتها من عمليات باستخدام الأنفاق قتل فيها عشرات الجنود الإسرائيليين، ما أجبر الاحتلال على التسريع في الانسحاب من قلب قطاع غزة.

لم يخفت وهج الأرض منذ سنوات، كانت الأقمار الفدائية تستسقي نورها من الباطن، وتعرف أن الوصول إلى عمق الأرض المحتلة يستحق هذا الوهج، وأنني لأتخيل كم من الحبّ كان يلزم "عرفات وحسن" ليطلقوا ابتساماتهم العريضة وهم يسيرون في نفقٍ عبدته أيديهم، كانوا شاهدين عليه بكلّ رملة وكلّ دقيقة.

حكايات عظيمة ترويها المواقف البطولية للشهداء الأبطال ابتداءً بعرفات أبو مرشد قائد لواء الوسطى لسرايا القدس، ونائبه حسن أبو حسنين، الذي قصف تل أبيب، وتعرض لأكثر من محاولة اغتيال فاشلة، ورحل بعد أن قاوم "إسرائيل" 17 عامًا من عمره داخل نفقٍ هجومي يصل عمق الأرض المحتلة التي وصلها صاروخه.

لقد جسّد الشهداء الأبطال معركة فدائية خاصة، سطّروا فيها ازواجية الدم والوحدة الوطنية الحقّة، التي لا ترعاها اتفاقيات بعواصم عربية، إنما تتبناها روح الفداء وتوقعها المقاومة في غزّة، وطرفاه هذه المرة سرايا القدس وكتائب القسام، فليس غريبًا أن نرى الكوماندوز القسّامي يرتقى في باطن الأرض، فداءً ليد السرايا الضاربة لتل أبيب.

وليس جديدًا على غزة البطولات، فالشهداء أنفسهم انحدروا من عائلات قدمت قبلهم أبناءها، فالشهيد أبو مرشد هو شقيق شهيد، وحسن كذلك، لهم باع طويل في العمل المقاوم، منذ كانت المقاومة حجرًا ومسدسًا يحمله حين يطارد، وصاروخًا يضربه حين يثأر ونفقًا حين تصبح المقاومة خيارًا استراتيجيًا، لا قرارًا آنيًا فقط.

في مستعرض الرد على الدم، انقسم الناس كما العادة بين توقع الرد وعدمه، خاصة بعد خلط الأمور السياسية، بما فيها دفع الاحتلال بوساطته للهدوء، والحديث عن الجهود المصرية لاحتواء الموقف مع الفصائل، والضغط لعدم الرد حفاظًا على ما أسموه "أجواء المصالحة".

كان يبدو واضحًا أن الاحتلال أقدم على قصف النفق بعد إصرار ومعرفة، وبدراية تامة لكنّ وبالرغم من ذلك كان بيان جيش الاحتلال الأول أقرب إلى الاعتذار غير المباشر، قالوا فيه إنهم "لم يكونوا قاصدين" في محاولة لتخفيف ردّ المقاومة.

من كلّ ما سبق نجد أنفسنا أمام خطوط عريضة واضحة يجب إعلانها، أوّلها الحساب الذي يحسبه الاحتلال لسلاح المقاومة في قطاع غزة، والخشية من ردّها، وهو موقف يتوجب على من يطرح قضية "نزع سلاح المقاومة"، والسيطرة تحت الأرض وفوقها، أن يفكروا فيها مليًا ويقفوا أمامه طويلًا، من ماذا سيخشى الاحتلال لاحقًا وهل سنشهد بيانًا خانعًا آخرًا لو كانت غزة تحت "سلاح واحد" يحمله عناصر السلطة القابعين تحت الاتفاقيات وأوسلو والتنسيق!

كما علينا أن نميّز الآن بعد 3 حروب أوقعت مئات الشهداء، إنّه من غير المنطقي والوطني أن يقف دم الشهداء حائرًا بين آراء الساسة، وأن يبقى مرهونًا لإتمام أجواء بروتوكولية من المصالحة وتسليم المعابر وتبيض الوجوه مع مخابرات عربية ولا عربيّة.

"الدم هو الفيصل" أصل القضية التي إن حاولنا تجنبه استسلمنا، لا قضيّة دون دم، لا ثورة دون دم، لهذا كانت الخطوات في عمق الأرض وصولًا إلى الأراضي المحتلة مغمسّة بالدم أيضًا، وإنّ هذا مما يقدم الدم لأجله.

لقد توقف الشهداء طويلًا، وهم يفكرون كم من العمق يلزمهم للوصول إلى جانب الأراضي المحتلة، يعيشون هناك ويموتون هناك حيث ينمو حلمهم، في معركة التحرير أو ما بعدها، ولا يدري المحتل كم من الشغف نستحضر في غزّة ونحن نتخيلنا نسير من شرق القطاع إلى الأمام نقطع الطرقات نسير في شوارع يافا، ولو كان خيالًا فانه يستحق فداء الروح.

لاحقًا، وبعد أيام من البحث عن مفقودي النفق، ظهر الاحتلال في صورته البشعة مرة أخرى، في صورة "المُبتز الفاشل" حين قايض مصير مفقودي النفق في الأراضي المحتلة، بمصير جنود الاحتلال المفقودين في قطاع غزة منذ العدوان الأخير، كمحاولة ضغط على المقاومة أو كأسلوب لتهدئة أهالي جنوده المفقودين.

لم يدرك العدو بعد أن رد المقاومة هو ردّنا جميعًا، وأنه لا فرق أبدًا بين أن يدفن شهيدنا في أراضي 48 أم في أراضي غزّة، فهنا غرسوا حلمهم وهناك رقدوا حيث سينبت يومًا، ستزورهم أمهاتهم هناك ذات يوم، ويحلفن القسم "والله ما كانت اليد الحافرة إلّا على عودة".