شبكة قدس الإخبارية

"النخب الفلسطينية" ووعد بلفور

أحمد العاروري

ربما من المهم العودة لدراسة "المجتمع الفلسطيني"، وجاءت كلمة المجتمع بين الأقواس لأن الناس لم تكن تميز نفسها ربما عن باقي محيطها في سوريا الكبرى أو بلاد الشام، المهم أن دراسة مجتمعنا في ذلك الوقت، وربما كتب في ذلك قد تكون مهمة، في سياق دراسة النخبة الفلسطينية وقتها وتعاملها مع الاحتلال البريطاني والبنية الاجتماعية والفكرية والدينية للمجتمع وتعامل الإنجليز معها، والأسباب التي أدت بالناس لعدم مواجهة بريطانيا في حينها إلا في حالة محدودة، بقرية "صرفند الخراب" بين اللد والرملة، والتي هدمها الأتراك وقتلوا جميع رجالها، وكانت الخلفية على قضية "شرف".

في إطار التاريخ البديل للمجتمع الفلسطيني، يمكن تتبع حالة الناس وقت قدوم الاستعمار، من خلال عدة مصادر تاريخية، تقدم جواباً ولو جزئياً عن طريقة تعامل الناس مع بريطانيا في بداية الاستعمار، مع عدم إغفال وجود مقاومة فلسطينية مستمرة للمشروع الصهيوني، منذ بداية استشعار خطره أثناء الحكم العثماني.

في عدد من محاضرات الدكتور إسماعيل أبو شميس، وهو ممن أحب كثيراً ما يكتبون أو يقدمون معرفياً، تناول بالأمثلة عن طبيعة تلك المرحلة وعلاقة العثمانيين بالناس واستغلال الانجليز لذلك، والمقابل كيف استغل صلاح الدين المواسم الدينية وبعضها ذات خلفية "مسيحية" في مواجهته مع الصليبيين، وبخاصة في قطاع غزة.

يمكن اعتبار المجتمع الفلسطيني، في تلك المرحلة، كان صوفياً مرتبط بالمقامات والمواسم، وخلال فترة الحكم العثماني مرت أحداث عسكرية اعتبر الفلسطينييون وقتها، أن الإدارة اعتدت على "مقدسات"، تزامناً مع حملة استخباراتية وتغلل مجتمعي أدارته بريطانيا قبل الاحتلال، مكنها من تكوين صورة عن المجتمع وطبيعة روابطه ومقدساته وعلاقاته، ونسج روابط مع عدد من فئاته.

كان من بين أسباب سقوط غزة، وفقاً للدكتور إسماعيل، بيد البريطانيين بعد 3 معارك ضخمة، لا يعود لتفوق تكتيكات قائدهم "اللنبي"، بل لقدرته على استمالة القبائل البدوية المحيطة بغزة، فقد شكلت مساعدتهم له عاملاً حاسماً في إخضاع المدينة، مع العلم أن الأتراك وعلى مدار 400 سنة من حكمهم للبلاد، "لم يتمكنوا من إقامة علاقة جيدة مع القبائل البدوية، بل إنها لم تتمكن حتى من إحكام السيطرة على مناطقهم، وعوملوا كذئاب ولصوص لا يحسنوا سوى السطو والتهريب وإيواء المجرمين".

عودة للتاريخ ستبين علاقة الفلسطينيين العميقة بالمواسم الدينية، وقد تحولت لاحتجاج سياسي في إطار المواجهة مع المستعمرين، مثل موسم النبي موسى وروبين، وقد كان يحضرها عشرات الآلاف من مختلف المدن والقرى، ولكل عائلة علمها ومن يرفعها، وبالمقامات الدينية أيضاً التي اعتبر قسم من المجتمع الفلسطيني أن الدولة العثمانية مست بالمقدسات بينما "لم يفعل الانجليز ذلك".

يروي عدد من المؤرخين أن الإنجليز تمكنوا من خلال بعثاتهم، العلمية والسياسية، إلى فلسطين قبل الاحتلال من جمع معلومات ذات أهمية قصوى عن كل شيء في البلاد، حتى أسماء النباتات، مما سهل عليهم عملية السيطرة.

تعاطي النخبة الفلسطينية مع بريطانيا ومن ثم وعد بلفور، يمكن سحبه بكل سهولة، على شكل البرنامج السياسي أو السقف الذي تدير به الطبقة السياسية الفلسطينية الحالية المشهد، ويمكن الرجوع للوثائق والبيانات التي صدرت في تلك الفترة، والتأكد من ذلك، فأغلب الأحزاب والتشكيلات والعائلات التي كانت تهيمن على المجتمع، لم تختلف لغتها السياسية عن الدارج الآن.

مثلا يمكن اعتبار جنازة الشهيد عز الدين القسام، أنموذجاً على انسحابية النخبة وتلكؤها وسقفها المنخفض، حيث لم تحضر الجنازة أي من القيادات الفلسطينية إلا القليل، ومن قادت المسيرة هي الجماهير والناس العاديين في الغالب، الذين رفضوا كل شروط الإدارة البريطانية في وقتها، لدفن الشيخ والمجاهدين معه.

النخبة الفلسطينية مع مرور الوقت، على احتلال الإنجليز لفلسطين، وتزايد الضغط الشعبي مع رؤية الفلاحين لأرضهم تسرق لصالح الحركة الصهيونية، بقيت النخبة منقسمة حول طريقة التعامل مع بريطانيا، هل هي المواجهة أم التفاهم أو الفصل بين مقاومة الحركة الصهيونية والإنجليز.

ربما ما أريد قوله وعجزت عنه في كل هذا الكلام، أن الانفصال بين النخبة والدولة والمجتمع، مستمرة منذ سنوات وطوال تاريخ الصراع مع الاستعمار، وأي قراءة للمجتمع الفلسطيني يجب أن تراعي كل هذه الحساسيات وتسعى للغوص في عمق هذا التشابك والتعقيد ببنيته.