شبكة قدس الإخبارية

أنا المجرم البريء والرهينة

قتيبة قاسم

لم يدر في خلدي ذات يوم أن أصبح أنا المواطن الفلسطيني رهينة وورقة يلوّح بها ساسة هذا الشعب إرضاءً لغرائزهم في القهر وإشباع نهمهم في تسليط سيوفهم على رقابنا وإظهار سطوة القوي الحاكم الذي لا يريد لنا إلا أن نرى ما يرى، وأنا الذي ظننتُ بعد عدد من الاعتقالات والاستدعاءات المتكررة لدى الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية على مدار السنوات الأخيرة أن الأمر كان نتيجة الانقسام كردة فعل حيناً ولمناكفة أو مهاترة رخيصة حيناً آخر أما أن يصل المشهد إلى أن يكون "صفقة تبادل" فهذا آخر ما يمكن أن تتوقعه من مشاهد الانقسام البغيض وستضطر إلى أن تكون من المصدّقين لحدوثه ولو بعد حين.

منذ العام 2008 وسلسلة من الاعتقالات والاستدعاءات لدى الأجهزة الأمنية والقاسم المشترك بين كل تلك الاعتقالات أنني أخرج بعد أيام بالبراءة وإسقاط كل التهم التي تُعاد من وقت لآخر لأن تكون جاهزة في حلقة أخرى حسب الرغبة والطلب وحسب الأهواء التي بات من الضرورة الحديث عنها بشكل آخر من شأنه أن يضع النقاط على الحروف وأن يكون واضحاً لدى المتابع للحالة الفلسطينية مدى الهشاشة والرداءة والحزبية التي تطغى على الأقل في واقع الضفة الغربية حيث أسكن وحيث أدخل السجن في العام مرة أو مرتين وأدخل السجن أو السجنين وألتقي السّجان العربي والسجّان العبري.

قد يقول قائل، والمقاومة وثمنها المعروف فما بال الصحافة باتت تنافس المقاومة وباتت هي الأخرى على قائمة الإجرام والمسّ بالدولة والهيبة والنظام في أقل من أن يُسمى بدولة، تلك التي "بلا عضو" والتي لا تملك من أمرها شيئاً.

شهد العام 2007 بداية التحاقي بكلية الاعلام وكان مع هذه البداية انطلاق مسلسل إلصاق تهمة العمل مع فضائية الأقصى حاضراً في معظم الاعتقالات واستدعاءات التحقيق، الأمر الذي لا أنفيه لمجرد النفي غير أنني لم أكن يوماً موظفاً أو عاملاً في أي فضائية إذ لن أخجل من الإفصاح عن ذلك لو تم فعلاً ففضائياتنا لديها جيوش من المراسلين والمصورين في الضفة ظاهرين يعملون تحت الشمس لا تحت الأرض، فما بال التهمة تلاصقني وتتلبسني منذ ذلك العام حتى هذا الاعتقال الأخير (أي بعد 10 أعوام) الأمر الذي يطرح كثيراً من التساؤلات الخطيرة حول مدى المهنية التي تتمتع بها المؤسسات التي تمسك بزمام الأمور ههنا

والذي بدا أكثر وضوحاً وتجلّى بشكل كبير خلال حيثيات الاعتقال الأخير الذي طال إسكات الحقيقة وإخراس الصحافة فطال عدداً كبيراً من الصحفيين سيسجّله التاريخ وصمة عار في تاريخ القضية الفلسطينية ويوماً أسوداً في الذاكرة، إذ بدأت التهمة بتسريب معلومات خطيرة لجهات معادية حسب وكالة الأنباء الرسمية وحسب المصدر الرفيع ثم انتقلت صباح اليوم التالي إلى تكرار التهم القديمة المتمثلة بالعمل مع فضائيات محظورة ثم تحوّلت في اليوم الثالث بقدرة قادر إلى إنشاء مواقع محظورة استناداً إلى قانون الجرائم الإلكترونية ثم أفرج عنا قبل انتهاء التمديد بيوم بعد طلب إخلاء السبيل وانتفاء كل التهم والحصول على البراءة من اللاشيء.

إن انتقال التهم وتحويرها حسب الطلب وحسب المزاج كان واضحاً منذ لحظة الاعتقال، ومنذ أن طرق جهاز المخابرات العامة منزلي –الذي لم أكن متواجداً فيه– وأبلغني عبر الهاتف لاحقاً بضرورة الحضور وتسليم نفسي فوراً دون إبراز ورقة النيابة فإن ذلك كان الخرق الأول في عملية الاعتقال وقانونيته التي لا تساوي الحبر الذي كتب به الاستدعاء، ثم كان طلب النيابة العامة صباح يوم الاعتقال بإمهالها 24 ساعة لحل الموضوع (ودّياً) حيث بدأ تأكيد المؤكد باستخدامنا ورقة ضغط ورهائن للنيل من حماس وإجبارها على ما ليس لي به علاقة – مع أنني لست مضطراً للقول دائماً بأنني ضد اعتقال الصحفيين فوق كل أرض وتحت كل سماء وطالما قلنا أنه يجب إطلاق سراح الزميل الصحفي في القطاع – ثم انتقل الأمر إلى إلصاق تهمة كانت النيابة تتحدث عنها بأنها ( الأقل ضرراً ) بمعنى أنه تم اختيار التهمة بشكل موضعي آني إذ لا يوجد أساساً تهمة أو شكوك أو حتى أقل من ذلك.

ثم لم تكن التهم خاصة أو واضحة في اليوم الثالث بل كانت فضفاضة عامة ، وطالبت النيابة بسؤالي عن تلك المواقع التي يزعمون أني أنشأتها وفق قانون الجرائم الإلكترونية في البند العشرين فلم أسمع جواباً وكل ما في الأمر رغبةً جامحةً لدى هؤلاء لإنفاذ القانون كي يكون سيفاً مسلطاً على كل مخالف أو معارض أو حتى لاستخدامه حسب المزاج في خرق آخر متواصل لأبسط الحقوق وأدناها.

أعلمُ جيداً أن حجم الألم الذي لا زال يلحق بي جراء تلك الممارسات ضدي وضد العشرات وربما المئات طيلة تلك الأعوام جراء تلك الإجراءات الظالمة كان سيكون أكثر ضراوةً وقسوة لو أن العمل بما يسمى بقانون الجرائم الالكترونية سيتواصل أو أنه سينفَذ، القانون الذي يحمل عناوين فضفاضة تحتمل الكثير ولا تحتمل الحرية مطلقاً سيكون إيذاناً بوأد الحرية التي تنازع الحياة والموت وسيكون رصاصة الرحمة التي ستجعل من الضفة الغربية نموذجاً مصغراً لا يختلف كثيراً عن دول القمع المنتشرة في هذا الكون المليء بالفراعنة والأنظمة والقوانين التي

بلا شك سترى في مقالي هذا مساساً بحقها الوحيد في القول والرأي وتطاولاً على سيادتها وهيبتها وأمنها ومعلوماتها وإمكانياتها وقدراتها "الحساسة " كما تصرّح دوماً تلك المصادر الرفيعة .. إذ أني وبدون ذلك القانون ومنذ مطلع هذا العام تم استدعائي لخمس مرات للمقابلة وهذا الاعتقال الذي امتد لسبعة أيام تخللها اضراباً عن الطعام ليومين فما هو الحال فيما لو جاء القانون ليُضاف إلى تلك التهم المحضّرة مسبقاً من قبيل تعكير صفو الأمة وبث النعرات الطائفية وما هو على شاكلتها، إننا أمام مفترق طرق، عناوين فضفاضة لا هدف منها سوى أن تظل تحت طائلة الاتهام ومطرقة الاعتقال والاستدعاء والهيمنة والبطش والتنكيل.

أنا المجرم البريء، أنا المتهم الذي يحفل كل يوم بتهمة ويحفل كل يوم بقضية جديدة، أنا المجرم الذي حملت كاميرتي وقلمي وأخذت صوراً لهمجية الاحتلال ورسمت بقلمي وكلماتي المتواضعة معركة صمود الشعب وتضحياته وملحمة الاسرى سأظل متهماً ما حييت وسأظل في نظر البعض الذي يعتاش من نبع تلك السياسات ومالها المتخثر بدم الشهداء والمتاجر بهم أنني لستُ صحفياً ، والسبب معروف ، فأنا لستُ من لون ذلك الحزب ولا من لون تلك العينة التي تطبّل وتزمّر أو في رواية أخرى " تسحّج "، غير أني بعد قرابة ستة أعوام من الاعتقال والتنقل من سجن لآخر فلا قيمة عندي لزنزانة " المسكوبية " و لم تكن لتثني عزيمتي خمسين يوماً في بطنها لا أدرك الليل من النهار ولا ذلك القبر تحت الأرض في مقر المخابرات في بيت لحم والذي وسّدت فيه أكثر من مرة ، فهذا قبر عربي وذاك قبر عبري ولستُ أحيا إلا في البرزخ ولن يفعل فينا إنسان سوى إنفاذ قدر الله وقضائه المكتوب، فما للزنزانة أن تكسر مبدأً أو تنال من ضمير يقظ ووازعٍ لا يُساوَم عليه، سيظل القلم سلاح الحر الذي لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يخشى في أن يكون مع القضية ولأجلها يقيناً أكثر من مجرد شعار، فحمل الشعارات في بلد الشعارات الرنانة وحماية المشاريع الوطنية المتعددة بات تجارةً رابحة يقطف ثمارها المتخاذلون والمتخمون من وراء تلك المقايضات والمراهنات.

أنا المجرم البريء وأنا الرهينة التي بيعت في سوق مهاترةٍ دنيئة أطالب بأن تُحترم إنسانيتي وأن تُحفظ كرامتي ولستُ أبالغ حين القول بأنني بتُّ أتمنى لو أن مستوى معاملتنا ومنطق الحرية المعطى لنا يوازي ما يناله الصحفي الصهيوني الذي يجوب ساحات الضفة ليلاً ونهاراً دون رقيب وحسيب ودون أن يكون ذلك الصحفي "جهة معادية"!!