شبكة قدس الإخبارية

رسالة إلى أخي الشهيد

ساري جرادات

صحيح أن الحياة تتغير لا تتوقف، كونها معركة شرسة بين الخير والشر، ونمتلىء بالمشاعر المتناقضة، ويحتم علينا أن لا نقنط من رحمة الله مهما بلغ ألم الحزن والفقدان، ولكن عزائي الوحيد يا رفيقي أنك قضيت نداً عنيداً برصاص الاحتلال، شهيداً على مذبح الفداء والتحرير، وليس من أجل سلطة وهمية تعيش تحت حراب الاحتلال اللعين.

بعدما تداخل الحابل بالنابل والوطني باللعين، أخفض كلماتي يا شهيد وأنا أشاهد الوطن ينحني إجلالاً لأرواح أبطاله، وتغيب الشمس خجلاً من شاماتكم التي تنير الدرب، أخفض كلماتي يا حب الشهيد، ورصاص رفاقك بالأمس ضرب نعيق المتنازلين عن إرث براقنا وقدسنا وأردى تخاريفهم في مزابل التاريخ.

رفيقي الحبيب، اعذرني لأنني مرتبك، فحريق يشب في نفسي وتفيض عيني بالدموع، فتحرق شمس الخضوع والانكسار وأنت تمضي لحيث أردت، ونحتضن نحن ذرات الفكرة المجبولة بدمائكم، وننتظر عودتكم في الأسبوع القادم للأرض التي فيها من شمس الحب ما يعانق شمس الحرية ولحنها الأزلي الخالد بالتقويم والحساب.

حب، بكتك فلسطين كلها حين ودعناك وسلمناك وتلونا صلواتنا وآياتنا على قيامتك الجديدة، فصرت لنا الوطن والبرتقال والقيد والخيمة وذخيرة البندقية، اشتبكنا باسمك مع كل اللغات وعلوم البلاغة والفصاحة لنفتش فيها عن معناك، نسمي شوارعنا وأنفسنا وزيتوننا باسمك، نغتسل بطهر كعبك الممتد على نعشك المزركش بزغاريد أمي التي ولدتك لهذا اليوم، ونقسم لك أنك تحت جلودنا تصرخ فينا، وتطفئ المواكب والمجرات وتمضي إلى فلسطين فرحاً بما آتاك الله.

أعذرني يا رفيقي لأننا لم نقم من الانقسام بعد، ولم نلملم أشلاء فلسطين، ولا زالت الرؤيا ضائعة والبوصلة منحرفة وسط صدى صوتك وفعلك، وغاب الفرح ومالك الحزين وصوت الحمام عن عتبات أرضنا، وصلب الفرح وتمادى الكهل في وحل التفرد والتفريط، لكن عودة المثقف المشتبك زرعت فينا اليقين بالنصر والتحرير ككل مرة.

أحيطك علماً أننا خرجنا من كل فج عميق نركض خلف موكبك الملكي وزفافك المقدس كما أردت، وذهبت أنت لتصلى بالأنبياء والشهداء في القدس، وانطلقت بعدها في رحلة المعراج، فما قتلوك وما صلبوك وما اغتالوك ولكن شبه لهم، فها أنت تنبت فينا حباً مقدساً لفلسطين بشيوخها وأطفالها ونسائها الحبلى بالثوار والمقاومين والحسينيين.

صيرورتك يا شهيد التي قاومت جنرالات أركان الاحتلال، وحدها الكفيلة بالخلاص من رطوبة الجدران وصدأ القضبان والإبحار فينا نحو الماضي والحاضر والمستقبل حين ينصرفوا عن أحلام وأمنيات والعاب أطفال حارتك، وتتقدم الجمع وتتلو علينا خطاب النصر فوق أسوار القدس، التي سنبقى ننشد طريقها حتى فجرها الأكيد، فيرد عليك شعب بومدين وأطفال اليمن لبيك لبيك.

الجو ملبد ومنضب ومليء بالتفسيرات والتناقضات، أكاد اجزم أن هذا الجو الكئيب يجعلني اشعر بإحباط ما، يقسمني إلى شطرين منفصلين غريبين كوجه القمر الذي يتلاشى في رائحة تراب هذه الأرض التي تنتظر صلاحا وضيفاً وأسوداً يعيد لها كنعانيتها.

شقيقي الحبيب، يقسمني هذا الجو، وهذا الوقت المشنوق فوق عتبات الذاكرة المستحيلة بين مرارة الفقدان وأحقية التضحية في سبيل ربك، رغم بساطة صوتك الهادر في طرد الغزاة عن الاقتراب من حدود أرضك وحياة شعبك، إلا أن التحاقك بقافلة الشهداء يؤكد فينا ككل لحظة أن الأرض لمن يحرث ويفلح لا لمن يصرح ويندد.

فعلك يا شهيد يحميني من الخذلان على مر العصور، ويتجدد يقيني بفلسطينيتي التي ولدت في خيمة أم سعد من غير هوية، فتصيبني حالة موت سرير سريالية، بعدما فقدت كل شيء وأصبحت أسناني تصطك ببعضها، تلعن الواقع المميت الملقى على رصيف القلق والترقب والانتظار، لأننا ندرك الفكرة ونضل الطريق.

ألمح تقاسيم وجهك في ثنايا وجه حنظلة، فأعدل عن إحباطي لأتيقن أن موطني سيمفونية الفلسطينيون الأبدية في التعبير عن العشق السرمدي لحبات البرتقال ورمال النقب وهضاب الجولان ورائحة الساحل المنثور فوق جنة ربك على الأرض، ليحمل كل حرف في هذا الوطن اسم شهيد وحكاية أسير ورمزية مدينة في وطن مثخن بالجراح والأوجاع.

واسمح لي أن أخبرك يا شهيد، أن موطني تحول اليوم إلى لعبة سهلة الامتلاك إلى الحد الذي يثير الضجر في قلوبنا بيد مجموعة من المتسلقين والانتهازيين، والذين إذا خاطبهم الشهداء ولوا الأدبار منصرفين إلى أحضان شركاتهم المتعددة الجنسيات والسرقات، كون تاريخنا الفلسطيني لمن يتفحصه جيدا عصي على الانكسار والانحناء، فشبابه لا يعرف اليأس أو الكلل وغايتنا التحرر والانعتاق من نير الاحتلال، والثابت الوحيد الشيء المتغير، ولا تغير عن فلسطين من بحرها لنهرها.

لا تقلق يا شهيد، وإن بات موطننا مليئا بالسبع الموبقات والفسوق والفجور، ونسمع هنا عن كرم شخصي بتقديم التبرعات لمشافي جنود الاحتلال، وعن شراكة متينة في التنسيق الأمني المقدس، وحظر للوكالات التي واكبت ودافعت عن صوت الشهداء ومصادرة ثمن لعبة طفلة أسير، وتصغر الدولة التي ولدت بغير عضو وتتحول إلى بوليسية الأوصاف والأفعال وأكثر.

حب العظيم، سلم وعانق بحرارة يا قرة العين ومهوى القلوب والأفئدة على كل الشهداء حولك, سلم على السادة والقادة والأنبياء والرسل والصالحين وطمئنهم جميعاً أننا على الدرب، حتى نلحق بهم أو حتى يتغير لون الأرض كما نحن نريد، وأقسم لك أنهم يروها بعيدة ونراها نحن مسافة البندقية الأقرب من حبل الوريد.

سلم بعنف منقطع النظير على فرسان دير أبو مشعل، العائدين من ساحات النصر بعدما أفقدوا العدو اللعين لذة الراحة، وأجبروه على التفكير ألف مرة في أن يحملوا أسمائهم وأشيائهم وينصرفوا لبارات البيضاء والعجوز والسمراء وكل أصقاع الأرض، فهنا شعب يأبى الخنوع أو النسيان، وابتسموا كثيراً فالفرح المنضب من دمائكم وحده القادر على كنس الأرض من الاحتلال الفاشي.