شبكة قدس الإخبارية

عن البطولة التي لم يصنع أحد لها تمثالا

مهند أبو غوش

التمثال:

في منتزه تريبتاور، في برلين، يرتفع تمثال ضخم، يناهز ارتفاعه الـ 12 مترا (وهو تقريبا ذات ارتفاع سجن بيتونيا، وأعلى بكثير من سجن أريحا) . ُيظهر التمثال جنديّا سوفياتيّا يحمل على ذراعه اليسرى طفلة. ويحمل في يده اليمنى سيفه. تبدو الطفلة محتمية تماما بالمعطف العسكري الضخم، ومن موضعها،  تقريبا تحت إبط الجندي - الشهيد، قريبا من قلبه،  تظهر كفها الناعمة وهي تلامس رقبة الجندي، حادّة العروق.

اختار النحّات السوفياتي يفغيني فوخيتش هذا المشهد بالذات، لينحت في خطوط دائرية ملساء جسد الطفلة التي يحملها الجندي منتصب القامة، منحوت بخطوط شديدة الحدّة.

أما قصة التمثال نفسها فهي  قصة خيالية وغير واضحة المعالم. ما كنّا نعرفه عنها حتى عام 2014 هو إنها ترميز لجندي سوفياتي ينقذ الطفلة الألمانية من تحت الأنقاض تحت زخّات رصاص النازيين، لكي يصوّر بطولة الجنود الذين هزموا الرايخستاغ وليخلد ذكرى الجنود السبعة آلاف الذين قتلوا على أبواب برلين.

لكن المؤكد أن القصة نفسها، لم تحدث. لقد تم إخضاع الوعي لماكينة الإعلام السوفياتي الهائلة. وهكذا، فقد ظلّت القصة في حيّز الأسطورة والترميز. لم يكن أحد ليعتقد أن خيال النحات السوفياتي سيتمثّل بشرا سويا بالذات في منزل من طابقين في مخيم جنين.

محاولة للعثور على نقطة البدء:

بإمكاننا أن نبدأ القصة عبر تدوير عجلة الزمن إلى الوراء واختيار موضع واحد من مئات المواضع المقترحة لكي نبدأ قصتنا. إن أية نقطة على خط سير حياة ذلك الشاب، ابن الـ 22 عاما، والموثّقة من حسابه على فيسبوك، ومن الفيلم الذي نشر على يوتيوب عن حياة الشهيد، تبدو موضعا جيدا للبدء بحديثنا عن البطولة التي لا يعرف هذا العالم العربي، بتماثيله، واستعراضاته العسكرية، ودباباته التي تطلق نيرانها نحو الخلف، عنها شيئا. لنختر، جدلا، ذلك اليوم الذي رافق فيه  الولد أخته إلى الصف الأول الابتدائي:

اليوم الأول في المدرسة كان لا يُنسى في حياة الأخت الصغرى ، حين بكت كثيرا كحال الأطفال في اليوم الأول في المدرسة. الوالد كان معتقلا، وكذلك الأم. البيت محترق  بعد قصفه،  والأولاد موزّعون على بيوت الأصدقاء وأبناء العائلة. ما من أحد يملك الوقت لكي يرافق الطفلين في يومهما الأول،  تتذكر البنت ذلك اليوم حين سقط على أكتاف أخيها، الذي يكبرها ببضعة سنوات، حمل ثقيل: كان عليه أن يتخلص من رعب المدرسة، ومن طفولته، ليشجّعها على دخول الصف.

بعد ذلك اليوم بعشرة أعوام  بالضبط، اقتحمت وحدات الإعدام الإسرائيلية محيط المنزل الذي تحصن فيه الشاب، وطالبوه بالاستسلام: ردّه كان واضحا وعاليا. قال للضابط المسؤول: " اسمع ولا :  كِنّك زلمة إطلع فوق" .. "أنا فوق لحالي .." . أفرغ الشاب مخزنا كاملا من الرصاص في الجنود. وحصيلة الضربة الأولى كانت جنديا مجندلا على الأرض. ولاحقا، لحقه جندي ثان، ثم ألحق بهما كلبا تابعا لوحدة "عوكيتس".

نقطة أخرى مقترحة لبدء القصة:

ظهيرة يوم الجمعة ذاك،سار الشاب إلى المقبرة ليقرأ الفاتحة على قبر صديقه، نافع السعدي، الذي استشهد إلى جانبه.

كانا يجلسان سويا في المنزل في ذلك اليوم، ثم هجمت فرقة الإعدام، وتمكّنا من الهروب وسط إطلاق النار، وقف الشاب في مكان قريب وهو ينادي على صديقه نافع، يحثه فيها على ترك مخبئه والانضمام إليه. لكن نافع الذي أصيب، ظل ينزف تحت السور حتى استشهد. وظل  ذلك الشاب يحاول الوصول إليه.

سقط نافع، ودفنه صديقه.

لاحقا، ظل الشاب يكرر أنه يأمل أن يكون نافع شفيعا له.  وفي يوم الجمعة ذاك، قرأ الشاب الفاتحة قرب قبر شفيعه، وعاد إلى منزله، ليعود إليه بعد ساعات محمولا على الأكتاف.

نقطة ثالثة قد تصلح:

يحمل الشاب، إبن القسّام، على كتفيه حملا ثقيلا: فبعد معركة المخيم وضرب تنظيم الكتائب، حمل على كاهله إعادة تشكيل القسام في جنين، وتحالف "حزام النار" الذي يضم في صفوفه مقاتلين من القسام، وكتائب الأقصى، وسرايا القدس.

هذا الشاب إسمه حمزة أبو الهيجا. استشهد في آذار 2014.  ولم يصنع له أي نحّات تمثالا. لكن الأمن الوقائي قد صنع له ملفّا أمنيا بحجم نصب تذكاري، كان السبب في استشهاده.

عن البطولة التي لم يصنع  لها أحد تمثالا:

ليس المفترض بالمقاتل أن يولي ظهره للعدو. هذه مُسلّمة لا لبس فيها. لكنّ حمزة، في تلك الليلة بالذات، أعطى إسرائيل ظهره وهو على صهوة البطولة، لم يترجّل عنها. حدث ذلك بحسب شهادة سيدة من مخيم جنين على السلّم المفضي إلى قاع المنزل.!

قبل ذاك، حين حوصر أبو الهيجا، كان قد نام ساعة واحدة فحسب.عاد منهكا من جولته في المخيم. تلك الليلة كانت ليلة ظهوره العلني الأول بالسلاح. سبقت تلك الليلة ليال طويلة من الملاحقة والاعتقالات التي مارستها ضده أجهزة دايتون. وفيما بعد، مخابرات إسرائيل. قضى حمزة خمسين ليلة متواصلة في زنازين الجلمة ولم يعترف. فخرج من التحقيق مرفوع الرأس، ووراء ظهره الشاباك المهزوم، وتحته الأمن الوقائي المهزوم. في ذلك اليوم صدر القرار بتصفيته.

في تلك الليلة،  كان حمزة منهكا تماما، في حقيبة ظهره ثلاثمئة رصاصة ومخزنين وبضعة أكواع ناسفة.  أفرغ المخزن الأول في لحظة الاشتباك الأولى وواصل اشتباكه بالجنود. قذفوه بصواريخ لاو، تحطّم جدار داخلي لينكشف عن سيدة وابنها الذي يبلغ من العمر عامين. كاد يطلق عليها الرصاص. وحين عرف أنها محاصرة مثله، اتخذ قراره:

لفّ حمزة الطفل بمعطفه، وطلب من السيدة أن تمسك بتلابيب المعطف. وخرج من الحجرة المكشوفة للقناصة والمحاصِرين: كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أعطاهم فيها ظهره. حضن الطفل ونزل على السلم، ليضمن أن الرصاص إن انطلق، سيخترق ظهره هو، ويحمي بجسده الرضيع الذي يسكن في التجويف الذي ما بين القلب والذراع. حمله، ونزل أمام الفوّهات، على الدرج، وصولا إلى طابق آمن اجتمع فيه سكان المنزل،  تشهّد  بصوت عال، ثم صعد إلى الأعلى  ليواصل اشتباكه.  وظل هناك. "فوق" أعلى من الجنود ومن العسس. وفتح الطريق نحو صفد.

هذا هو. انتهت القصة هنا. الإنترنت مليء بآلاف النقاط التي تصلح لأن تكون بداية لقصة حمزة أبو الهيجا، وسيكون بإمكانكم أن تبحثوا بأنفسكم عنها لكي تحكوا هذه القصة لأطفالكم.  لكن هذه القصة ستنتهي بنقطة واحدة لا انحياز عنها، لا تراجع عن الخط المؤدي إليها، لا ارتباك في طريق الصعود إليها: نقطة في شمال شمال فلسطين، إسمها  صفد!

استشهد حمزة طبعا. ودفن إلى جانب أصدقائه. وما تركه لنا كانت صورا لجسد يبدو معذّبا، في كل مراحل حياته. جسدا هزيلا لا يشبه هيئة الجندي السوفياتي في التمثال الذي يرتفع وسط برلين.

تذييل:

اشتغلت الماكينة الإعلامية السوفياتية على تضخيم صورة السوفياتي البطل الوهمي الذي أنقذ طفلة لفّها بمعطفه. لكن  التاريخ موضوعي أيضا:  ظهرت إلى العلن مذكّرات لجندي إسمه فيتالي غيلفاند.  كان غيلفاند مجندا أوكرانيا في الجيش الأحمر، شارك في تحرير برلين من النازيين. لمثل هذا الجندي "الشجاع" ارتفع هذا التمثال الذي تشاهدون صورته أعلاه.  لقد تم تكريم الرجل وزملائه 72 مرة منذ ذلك التاريخ.لكن المذكرات التي دونها وقت المعارك تكتظ بعشرات أخبار قصص الاغتصاب التي نفذها  مع زملائه  من الجيش الأحمر بحق الفتيات الألمانيات. أعمال اغتصاب شديدة الوحشية وصفها الجندي ببرود شديد.

هنالك فرق كبير بين "أعراس السرايا وأعراس القرايا". باستطاعة الاتحاد السوفياتي أو الجيش الإسرائيلي، أو جماعة عاصفة الحزم تكريم "أبطالهم" كيفما يشاؤون بالطبع. السؤال هو كيف نكرّم نحن شهداءنا؟ والجواب المحتمل هو أن نحمل قصصهم الصغيرة ونتدفأ بها. أن نذكر أنفسنا بها كلّما اشتدّ الحصار واسترجل  العسكر- الدمى وأسيادهم في فلسطين، أن نحاول البحث عن ملامح الشهداء في أطفالنا. لأن هذا الخط الرفيع، الأحمر، الواصل ما بين الولجة،  منزل الندّ العملاق جمال أبو الهيجا في مخيم جنين، منزل  الشهيد الفذّ ضياء التلاحمة في خرسا، وما بين صفد: التي سندخلها ذات يوم، بصفة غير سياحية بالطبع.