شبكة قدس الإخبارية

لا صوت يعلو فوق صوت المعركة

مهند أبو غوش

وبعد.

تأتي هذه التدوينة، يا أصدقاء، من باب "اللهم اجعلنا ممن اجتهد فأخطأ". سيقرأ البعض السطور التالية ويتساءلون إن كان كاتبها قد عانى ظروف التحقيق أو السجن، أو جرّب النوم في الزنزانة. هذه أسئلة محتملة، لكن الإجابة عليها ليست مهمّة. هذه أسئلة لا علاقة لها بموضوع التدوينة نفسه.

في اليوم التاسع عشر للإضراب عن الطعام. وهو إضراب بدأ مرتبكًا ومربكًا. كما يعلم الجميع. بتنا جميعا مطالبين بالنزول إلى الشوارع. وأنا أنتسب إلى هؤلاء الـ "جميعنا" ومن حقي، على الأقل بالارتكاز إلى هذه الحقيقة وحدها، أن أطرح أسئلتي أدناه:

سؤالي الأول متأتّ من هذه المقدمة بالذات: نحن في اليوم التاسع عشر للإضراب: هل هنالك من يقوم بتقييم الحالة؟ هل هنالك من يتابع تأثير هذا الإضراب على الحكومة الإسرائيلية؟

أقول الحكومة الإسرائيلية، لا "المجتمع" الإسرائيلي لأن هذا المجتمع مغيّب كما يعلم الجميع. وأقول الحكومة الإسرائيلية، لا سلطة السجون. لأنه قد بات من الواضح أن من يدير المعركة، على الطرف الآخر هو الحكومة. الكابينِت وضوحا (في تقرير منشور في صحيفة معاريف صباح اليوم الجمعة 5.5، تطرّق ياريف كوهين، نائب مدير سجن نفحة، إلى الإضراب قائلا إن "هذه المسألة تعد مسألة أمن قومي، لا مسألة خاصة بسلطة السجون" أي أن من يدير المعركة منذ بدايتها سياسيًا ودبلوماسيًا  هو الحكومة الإسرائيلية.

بدا الأمر واضحًا في زيارة مسؤول عمليات التنسيق الأمني في الضفة، محمود عبّاس، إلى واشنطن يوم أمس. فالحكومة الإسرائيلية تولي مسألة تحطيم السجناء والحركة الأسيرة أولوية كبرى. ويتسابق أعضاؤها على محاولة القفز على ظهور السجناء، لمغازلة جمهور اليمين الإسرائيلي.

على جانب آخر، و بضغط من جهات مؤيدة لإسرائيل تم دفع ترامب دفعا إلى مساءلة عباس هذا بالأمس، في واشنطن، عن مغزى قيام السلطة بدفع مخصصات لأهالي المعتقلين. وهو ما تعده إسرائيل (وبالتالي: الولايات المتحدة) دعمًا للإرهاب. لكن هذا الاهتمام المضاعف بالأسرى لم يبدأ مع الزحف الديبلوماسي المظفّر الذي شنّف ناصر اللحام مسامعنا بأخباره منذ وطئت قدماه المرجة الخضراء باب البيت الأبيض.  فقد وجد أعضاء الحكومة الذين يبحثون عن دم يريقونه أمام جمهورهم،  ضالتهم في أسرى حماس. صرّح وزير الأمن الداخلي غلعاد أردان، مثلا،  أثناء اجتماع الكابينت بتاريخ 5 أيار  2016 قبل عام بالضبط، أنه يطالب بزيادة القيود على معتقلي حركة حماس. وهو منذ ذلك التاريخ يحاول استعراض عضلاته على الأسرى.

أردان هو من يقود معركة الإضراب من الطرف الإسرائيلي: وقد قام يوم أمس 4 أيار، بزيارة تفقّدية لوحدة مسادا  وهي الوحدة المخصصة لقمع الأسرى في السجون. كما  من المتوقع أن يلتقي هذا الوزير، حسبما أوردت صبيحة اليوم الجمعة، صحيفة هآرتس بالمستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية لبحث موضوع جلب أطباء من الخارج، ليقوموا بما يرفض الأطباء الإسرائيليون القيام به امتثالا لأوامر نقابتهم، من عمليات الإطعام القسري للسجناء. وفي الأثناء: تجري التحضيرات على قدم وساق لإقامة المشافي الميدانية في ساحات السجون، للأسرى المضربين.

ليس من العيب أن نطرح السؤال الثاني، في ظل هكذا ظروف: هل نجري نحن تقييما ما تم إنجازه حتى الآن في اليوم التاسع عشر من الإضراب؟  هل نعي حقا أننا الآن في حرب؟

في علم الحروب، يتم، بشكل دوري، توظيف ممارسة الـ BDA وهي مصطلح  اختزالي لعبارة "تقييم ضرر المعركة". هذه الممارسة هي فعل تقييم يمارس بشكل دائم للضرر المتسبب للعدو. تكمن قيمة هذه الممارسة في تحويل التكتيك العسكري (ولاحقًا الهدف الاستراتيجي)، إلى مسألة مرنة وقابلة لإعادة التموضع تبعا لمسار المعركة.

"نتراجع، نتقدم، نصمد، أو ننكفئ حتّى"، وفقًا لميزان الخسائر ومدى نجاح التكتيك الحالي في تقريبنا من الهدف المطلوب. فهل نحن نقترب حقّا من تحقيق هدف ما؟ هل نعرف ما هو؟ أنا والله أسأل مستفهمًا، لا مستنكرًا. لأن لا أحد يتابع، وما من أحد يعلن. كل ما نسمعه حتى الآن هو صوت هتافاتنا في المظاهرة المركزية التي حررت ميدان نيلسون مانديلا وسط رام الله.

وكل ما نسمعه حتى الآن محاولات لاستعطاف الناس من أجل المشاركة في المعركة، أو خطبا حماسية. وأخشى ما أخشاه أن ينتهي هذا الإضراب بانتصار آخر شبيه بالانتصارات التي حققتها الإضرابات الجماعية الأخيرة، من دون أن يجرب أحد على هذا الطرف من الجبهة استخلاص العبر (للمعلومية فقط: بعد كل إضراب جماعي عن الطعام، تقوم المؤسسة الإسرائيلية بتعيين لجنة لاستخلاص العبر. وهكذا، يبدو أن انكسار الإضرابات من دون تحقيق أي من مطالبها - باستثناء الإعلان عن انتصارها على راديو صوت فلسطين- ليس قدرًا محتمًا، بل هو نتيجة حتمية لاستخلاص العبر على أحد الأطراف، والإصرار على تكرار الخطأ نفسه من طرف آخر)

وعلى سيرة استخلاص العبر: قبل يومين، أثناء تجوالي في رام الله، التقيت بصديقين، يعملان في مجال الفن، كان ذلك في اليوم السابع عشر للإضراب، فقد تداعى الفنّانون لدراسة ما يمكن أن يقدموه دعمًا لإضراب الأسرى. بالطبع يمكن للفنان أن يذهب وأن يرسم صورة بذيئة وكبيرة ومهينة على سور بيت إيل مع عبارة "تسقط إسرائيل" لكن المهمة الأسمى للفنان هي تثوير الجماهير، لا الرسم على حيطان مقرات الحكم العسكري.  وبذا، فإن أحدا قد قرر أنه قد جاء دور الفن. جاء دور حشد الجماهير. في اليوم التاسع عشر، بعد أن قبّع الذي قبّع، وربّع من ربّع.