شبكة قدس الإخبارية

أربعينية الباسل... نواصل العهد.. ننغرس في التراب

مهند أبو غوش

كبر باسل الأعرج في بؤرة الصراع على الأرض. عاش وصقل وعيه الحادّ على رأس المثلث الحادّ، هو الآخر، الذي تلتقي فيه بوابة المستوطنة بالشارع الالتفافي بشجرة اللوز الواقعة أقصى ساحة المنزل.

في 15 أيار 2012 تعرّض باسل للضرب أثناء مظاهرة إحياء ذكرى النكبة على المقطع المصادر من أرض قريته. كانت نتيجة الضرب كسر ثلاثة أضلاع في صدره  (ولاحقا، احتضن باسل تراب البلد، بأضلاعه التي لا بد أن آثار الكسر لا تزال عليها، في هذه اللحظات بالذات.  لقد أوصى  الشهيد بأن يتم دفنه "لحدا" لا أن يدفن داخل "فستقية". أي أنه أراد أن يكون في التراب تماما! التراب.. تماما!) .

حدث الكثير ما بين تلك المظاهرة في 2012، والاستشهاد الذي تكلل بالجنازة المهيبة التي دفنّاه فيها بعد خمسة أعوام.  لقد صودرت أراض، وشقّت شوارع التفافية، وتم استكمال السور الفاصل. وواصل الشهيد نموّه نحو البندقية.  "عشنا" تحت الاحتلال، كما اعتدنا العيش منذ ولدنا. لكن باسل، ذات فجر قرر ألا يعيش تحت الاحتلال واستشهد. و هكذا، دفنّاه جميعا وعدنا إلى منازلنا وحياتنا.

علينا أن نفهم: الحياة لم تنته بتلك الجنازة، ولا الاحتلال انتهى. وتحت هذا الاحتلال المستمر، ذهبنا لكي نؤدي القسم، والإحتلال يواصل تقدمه.

إن الاحتلال ينتصر علينا يوميا. في كل لحظة ينتصر. كل لحظة وجود له على هذه الأرض هي انتصار له. وأية ثانية نزفر فيها زفيرا أو شهيقا، يتقدم هو بمقدار المساحة المنسحبة  من صدورنا.  وانتصاراتنا الصغيرة، في المقابل. الانتصارات المتراكمة الصغيرة المتمثلة في الفقيد بدون اشتراطات مثلا، في الهتاف أمام المستوطنة، وأمام هراوات التنسيق الأمني، هي مساحات نحررها نحن في الوعي، وعلى الأرض. في هذا الاشتباك المتواصل، الالتحام الذي لا يتوقف بين فكرتين وعالمين وقضيّتين.

ليست الحياة فيلما هنديّا ينتهي بانتصار أو استشهاد البطل.  إن الحياة، والصراع كذلك، مستمرّان. أمّا وجودنا على هذه الأرض، فاستمراره ليس مؤكدا أبدا. أنظروا إلى تجارب الشعوب التي اندثرت. سئمنا الحديث عن "الهنود الحمر" (وهم أمم كاملة تم ذبحها وتدجين بقاياها وإسكانهم في محميّات). لكن التاريخ مليء بنماذج أخرى لشعوب بأسرها تم دفنها تماما. شعب سيبيريا مثلا، حين فقد رغبته بالقتال، حوّله جنود القيصر الروسي إلى طعام لدود الأرض.  أو أنظروا إلى الأرجنتين "البيضاء" التي أطلق عليها المستعمرون إسم "الأرض التي بلا صاحب". بعد قيامهم  بذبح وتهجير مجموعتين عرقيتين على أرضها: أصحاب البلاد الأصليين، ومن ثم "العبيد" الأفارقة الذين جلبهم المستعمرون معهم والذين لم يرغبوا أبدا في قتال الأسياد.

البقاء البيولوجي وحده، بمعنى : أن نقبل العيش على الأرض في المعازل، وأن نعمل في المستوطنات، وأن نأكل ما يقذف إلينا من قمامة في أسواق رامي ليفي، وأن نقف في طابور منتظم تحت قدمي المجنّدة الواقفة في برج الحراسة على الحاجز العسكري،  وأن نزرع الورود في بنادق الاحتلال،  ليس وجودا حقا: نحن لسنا ظلالا على هذه الأرض،إلا إذا قررنا أن نكون كذلك.

ولأن الاحتلال لم ينته بعد، فأرض الولجة لا تزال مهددة بالمصادرة. شاهد سكان الولجة ضباط الإدارة المدنية يقومون بتصوير الأرض، هنالك 1300 دونما من أراضي الولجة مهددة بالمصادرة. وأهل الولجة ينتظرون الإعلان عن القرار.

هذه هي معركتنا الآن: كيف ندافع عن الأرض التي نبت منها الباسل، الأرض التي زرعنا فيها باسل: كيف نحمي هذه البذرة التي زرعناها هناك من إسمنت وأسفلت وحديد المستوطنات؟ بداية الأسبوع القادم، تحل الذكرى الأربعين لصعود المثقف المشتبك.  إن الأرض التي يتحلل جسده فيها الآن معرضة للمصادرة، لكي يبني عليها الاحتلال حاجزا جديدا، سورا آخر، أو نقطة مراقبة تقف فيها جندية ببسطارها، ولكي نقف جميعا بالدور، تحت البسطار بانتظار الذهاب للعمل في بناء المستوطنة الكبرى التي إسمها إسرائيل.

ما أعرفه أن معظمنا صادق في حزنه على باسل، وأن معظمنا صادق في وعده لباسل بأننا "سنواصل الكفاح". وأننا لن نسمح بأن تتحول تلك البقعة المضيئة من الأرض، الأرض التي تحتضن عظامه. الأرض التي نبت منها ونزف عليها لا إلى معازل، ولا إلى سجون للاحتلال وأتباعه، ولا إلى مستوطنات نبنيها بأيدينا ونحن ندخن Time.

تحل علينا ذكرى الأربعين عما قليل: وأمامنا عمل كثير: علينا تجديد العهد لباسل في المواقع التي تحيي ذكراه. علينا تجديد العهد للأرض التي عاش باسل من أجلها، ومات من أجلها.

أما هو، فقد رحل، مؤديا الأمانة، مستوفيا الدّين ثم صعد. وأما نحن فالأمانة لا تزال على أكتافنا وبين أكفّنا. علينا أن نسير مرفوعي الرؤوس إلى فعاليات 17 نيسان. إلى الدفاع عن الأرض التي تركها لنا باسل إرثا ثقيلا.

هذا إرث لن نتهرّب منه يا باسل. هذا عهد ليس مكتوبا بالحبر يا باسل

*ملاحظة: (تم تحديث المقالة بتاريخ 10-4-2017)