شبكة قدس الإخبارية

جيش التحرير.. باسل

عرفات الحاج

لا زلنا بعد أيام على استشهاد الباسل – من يصدق أنها ثلاثة أيام فحسب؟- نقارب الأمر ونكتب أو نتحدث عنه من زاوية شخصية أي زاوية حديثنا عن صدق الرجل، ثقافته، رفضه للاستسلام، شجاعته، كل هذا وأكثر كانت صفات باسل.

هذه كلها أشياء مهمة، كان الباقي فينا وبيننا باسل الحبيب يجيدها، ولكن هذه المقاربة توقعنا في فخ اعتبار قرار باسل بحمل السلاح واستخدامه هو فعل رمزي شخصي محوره هو إثبات مصداقية المثقف أو إعادة محاكمتنا لمصداقية ما نقول، وهو ما لا أتمناه للشهيد، ولا أصدقه، فمن سأل ذاته وسألني مرات عدة "هل العنف ضرورة وجودية؟" بالتأكيد لم يكن يمضي للاشتباك لإثبات وجهة نظره في جدل ما، بل كان يقدم مساهمته في الصراع مع العدو الصهيوني، للمساهمة بإلحاق الهزيمة بهذا العدو، وتحرير فلسطين كل فلسطين، لننشغل بما قدمه باسل في هذا الإطار إذن، أي أن فعله لم يكن عنفا رمزيا فحسب، بل كان تخطيطا لتنفيذ فعل عنفي مسلح مؤذي لهذا العدو في إطار معركتنا ضده.

وإذا كان باسل يطالبنا بالنظر للمقاومة بوصفها "جدوى مستمرة"، وللعنف كضرورة وجودية، فإن قصر نظري يلزمني بتناول الأهداف العملانية المباشرة التي حققتها محاولة باسل العسكرية، وصموده واستشهاده، والعودة لتبشيره بالانتفاضة (الحالية)، وللدور الذي لعبه فيها منذ بدايتها، ونقاشه لبرنامج أهدافها السياسي والعملياتي، والذي لخصه في إجبار العدو على الانسحاب من الضفة الغربية دون قيد أو شرط "واتجرأ على إعادة تذكر اختلافي معه على ذلك لاعتباري الضفة ساحة استنزاف ضروري للعدو" الرجل الذي اختار لمعركته الأخيرة بندقيتين أحدهما خصصها للالتحام من مسافة صفر مع جنود الاحتلال "بندقية كارلوستاف سريعة الطلقات قصيرة المدى"، لم يكن تنقصه المعرفة العسكرية وهو الذي اجتهد في تحصيلها من كل سير الشهداء والمقاتلين، التي ما كان يغذينا بها لنتسلى بل لنقاتل معه في معركته، التي اجتهد وبحث طويلا لإعداد نفسه لها، في ضوء انهيار البنى التحتية لمراكمة خبرات المقاومة في الضفة الغربية المحتلة، أي أن باسل كان معهد التدريب العسكري لنفسه ولغيره، وهذا جهد نوعي توظف له المقاومة في غزة أو لبنان المئات من كادراتها، قرر باسل أن يكونهم وحده ووصل لنتائج ممتازة في هذا الجانب.

حين استمع باسل إلى "عالبارودة وأنا بدي بارودة" لم يكن يحثنا على اقتناء السلاح فحسب، بل كان يبحث عن بندقية بالفعل، واستطاع الحصول على السلاح والاحتفاظ به مرتين -ربما أكثر- في الضفة المحتلة، رغم أن السائد هو أن شبكات بيع السلاح في الضفة مخترقة أمنيا وأنها تبيع السلاح لمن تعرف سوء نواياهم في استخدامه، تحت رقابة الاحتلال وأجهزة أمن السلطة، وأن المسافة الزمنية بين حصولك على السلاح واعتقالك لا تتجاوز بضعة ساعات في أغلب الأحيان، هذا الأمر تحديدا، أي غياب شبكة إمداد وتسليح للمقاومة في الضفة، كان ولا زال عاملا أساسيا في لجوء منفذي العمليات الفردية للسلاح الأبيض أو السيارات كأداة لتنفيذ عملياتهم.

وحين عجزت القوى الفلسطينية عن كفالة عائلات الشهداء، قام مع رفاقه بجهد شعبي نجح في حالات عدة بتغطية هذا القصور. قتل عناصر أجهزة أمن السلطة باسل عدة مرات توقف فيهن نبضه خلال تحقيقهم معه، ولم ينتزعوا منه حرفا واحدا، ليسقط وهم آخر حول انتهاء زمن الصمود في أقبية التحقيق سواء تلك التابعة للسلطة أو الاحتلال.

وفقط من باب الحمق، قد نظن أن السلطة اكتفت بتوجيه تهمة حيازة السلاح له عن طيب خاطر منها، ولكن هذا السلاح هو ما وجدوه في حوزته لحظة اعتقاله، وتورع عن استخدامه دفاعا عن نفسه ضدهم للأسف الشديد، لينهض ويخوض إضرابا عن الطعام مؤكدا على قدرة المقاتل على القتال دون سلاح ومن داخل زنزانته.

المطاردة .. لن يكون هذا سهلا عليكم

ينوه أحد أبرز قادة الفعل الشعبي الفلسطيني في الانتفاضة الأولى احمد قطامش ورفيقه وسام الرفيدي في كتابات كل منهما حول تجربة المطاردة الطويلة من قوات الاحتلال، لقيمة إدراك المجتمع ككل لجدوى المساهمات البسيطة في إرهاق الاحتلال، وإشغاله بآلاف نقاط الاشتباك الصغيرة، التي تحيل كل مهمة وكل أمر عسكري من بديهية تحتاج لكتابتها لتنفيذها الى عملية عسكرية طويلة ومرهقة تستنزف موارد الكيان الصهيوني وتشغل الآلاف من مقاتليه، مستعرضين العديد من النماذج، بينها نماذج عن إحراق أهالي العديد من البلدات في الضفة الغربية لهوياتهم الصادرة عن الاحتلال، أو إخفاء البقرات الأربعة وملاحقة الاحتلال لها، أو عمليات التخريب الشعبي ووضع المتاريس، يصطف لجانب هذا اقتراح باسل في بداية الهبة الشعبية الحالية، بضرورة عدم تجمع المتظاهرين في نقاط اشتباك مركزية مع جنود الاحتلال والانتشار على شكل مجموعات صغيرة في مئات او آلاف نقاط التماس.

في انتفاضة 1987 كان جنود الاحتلال يحطمون أبواب المنازل حين اقتحامها مما دفع بعضا من الأهالي لترك أبواب بيوتهم مفتوحة كي لا يحطمها جنود الاحتلال، هذا السلوك تحديدا هو ما تصدى له باسل، تركنا للباب مفتوحا وتوفيرنا مشقة تحطيم الباب على جنود الاحتلال توفيرا لبعض الخسائر، وهو ما نفعله منذ توقيع اتفاقية اوسلو وتطالبنا قيادتنا السياسية بفعله، أي التحول لعبيد خاضعين "مؤدبين" ممتثلين يسهل السيطرة عليهم.

هذا مهم بالنسبة لمن يعلم إشكالية نقص الموارد البشرية لدى الكيان الصهيوني منذ نشأته ومحاولاته الدؤوبة للاستعاضة عن ذلك بسياسات التطويع او بالجهد الأمني الإلكتروني، باسل حين اتخذ قراره بالاختفاء والمطاردة فقد اختار إشغال ضباط مختصين في أمن الاحتلال وجنود ودوريات وموارد تقنية، وعشرات من منظومة أمن السلطة الرديفة للاحتلال، لمدة ستة أشهر بأكملها، وهذا يعني إعطاء فرصة لغيره من المقاتلين والمناضلين للمحاولة والقتال، ناهيك عن فتحه باب الأمل أمامنا في عودة تجارب الاختفاء الطويل وفي وجود حاضنة للمقاتل تمكنه من الضرب والاختفاء مرارا وتكرارا، "أي أن تعيش نيصا وتقاتل كالبرغوث"، كان حين يطالبنا بالتمرد وإعاقة جنود العدو يحاول إنفاذ استراتيجيته بمقايضة المساحة بالوقت، ولنسأل أنفسنا هنا إذا ما كان هناك 50 او 100 او 1000 مطارد في الضفة الغربية والداخل المحتل منذ عام 1948، هل يستطيع العدو تكريس ذات القدرة القتالية في المواجهة مع غزة أو جنوب لبنان؟

المعركة

كان بوسع باسل تسليم نفسه للجنود بمجرد محاصرتهم للمنزل، ولكنه اختار إطلاق النار عليهم حتى قبل ندائهم عليه لتسليم نفسه وما كان أحد سيلومه على ذلك، وخروجه من السجن في اي صفقة قادمة للمقاومة شبه مضمون، ناهيك عن إمكانية حصوله على حكم منخفض إذا كرر تجربة صموده في التحقيق التي سطرها في سجون السلطة، كان باسل يرغب بقتل الجنود الصهاينة، والمساهمة جديا بإلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني، وتحرير الأرض العربية، كان يؤمن حقا أن هذا يتم بالكفاح وباستخدام أقصى درجات العنف في مواجهة هذا الاحتلال، وأن المعرفة والبحث هي ضرورات لخوض المعركة، لا بديل عنها، وأن قيمة أو صوابية أي فعل مرهونة بدرجة إسهامه في المعركة مع الاحتلال.

قد نتوهم أنه فعل ذلك لمجرد إعطاءنا درسا حول دور المثقف، ونواصل تضخيم أوهام الكتبة حول تمايز وأهمية دورهم، ولكنني أؤمن يقينا أنه كان يجيب على أحد أسئلته بأن العنف هو ضرورة وجودية وليست رمزية، ويشكل ويدرب جيشه ويخوض معركته التي أعد لها طويلا، وبذلك اكتسب وجوده الخالد فينا، وألقى بوجهنا بمحاولة للإجابة على السؤال إذا كنا سننضم له في معركته المستمرة مع العدو، لا كجنود- كان يؤمن بالتنظيم الأفقي- بل كبراغيث تلسع كل مكان في جسد عدونا وتدميه حتى يسقط.