شبكة قدس الإخبارية

انعكاسات 3 شهور بسجون الاحتلال

جورين قدح

فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: كتبتُ عن قصتي أكثر من مرّةٍ وفي أكثر من موقع... لو كنتُ غيري لتساءلتُ "من هذه جورين الّتي صدّعت رؤوسنا بقصتها؟" ربما تحسبون القصة كما رويتها سابقاً. ولكن مهلاً القصة ليست هنا. لم تكن قصتي في يومٍ من الأيام هي ثلاثة شهورٍ ادارية قضيتها في سجون الاحتلال، بل هي الانعكاس... هي انعكاسٌ يوميّ بأشياءٍ عادية لأشياء لم تكن ولن تكون عادية في يومٍ من الأيام... هي انعكاسٌ لحالة ظننتها انتهت لموقعٍ حسبتُني تخلّصتُ منه.

أن أقف مثلاً أمام حاجز تابعٍ لقوات الاحتلال كان يكفي ليدفع في ذاك التخوف من السجن "سيقف الآن يطلب من الكل هوياتهم، سينظر فيها بشكل سريع، حتى يصل إلى هويتي، سيمعن النظر فيها أكثر وأنا أتوجس وأعصابي تكاد تتمزق... يحملق عينيه أكثر، يفركها، يعطيها لزميله ليقرأ الاسم عوضاً عنه، وسيأتي غاضباً صارخاً:

- وين جورين؟؟

وأعترف أني هي ويأخذني"

فعلاً هذا ما حدث... أرأيتم؟ إني لا أتوهّم كثيراً، فقد حدث فعلاً واحتجزني الجنود وأوقفوني... "ولكن ماذا يريدون الآن؟... يا إلهي لو أحضرتُ معي بطّانية دافئة ووضعتها في حقيبتي الجامعية عوضاً عن كل هذه الكتب!! هل سأجد فراشاً مريحا في السجن؟ الجو بارد يا الله، لماذا لم أتذكّر هذا؟! ثلاث شهور أخرى ستكون قاسية، سأقضي التحقيق كلّه دون تهمة، ثم يصطحبني جنديّ سمين إلى الزنزانة ويلقي بي في الظلامِ البارد القاسي... سأنتهي من الزنزانة لأُسحَب إلى المعتقل، أسلّم على زميلات السجن اللائي عرفتهنّ في المرّة أولى من الأسر، ثم يهدئنَ من روعي ونصنع الطوق معاً وقد نخيط ثوباً على قطعة قماش، وبعد ثلاثة شهورٍ أخرج دون أن أعرف التهمة"

لم يحدث شيء... بعد ساعةِ صراخ أخذت هاتفي وأغراضي وعدتُ إلى المنزل... ساعة واحدة فقط حملت في داخلها ثلاثة أشهرٍ السجن.

من أحيا الموت في ذاتي ؟!

منذُ عدّة أيامٍ ذهبتُ مع عائلتي إلى بلدة نعلين، وكان الجوّ صافياً والبلدة غير مزدحمة على غير عادتها، توقّفت السيّارة بجانب محلّ الحلويات، أحضر لنا أخي قطع "الجاتو" وزّعها علينا وذهب يحاسب. نظرتُ إلى المحلّات أتأمل إلى أين وصلت نعلين في تقدّمها وكثرة محلّاتها، توقّفت عيناي عند أحد المحلّات ورأيتُ غازاً أملساً نطلق عليه اسم "البلاطة". شعرتُ بقشعريرة باردة تسري في بدني، ويداي ارتجفتا بشدّةٍ. تكوّرتُ على نفسي وأغمضتُ عينيّ بشدّةٍ فيما انزلقت بضع دمعات إلى خدّي وهوت أرضاً. تراءى لي الغازُ يشتعل وركوة القهوة تغلي فوقه، قامت إحدى الأسيرات بسحبها عن البلاطة وسكب القهوة. فإذ بالسجّان يصرخ: "عدد". سقطت قطعة الحلوى من يدي وعرفتُ أني لم أزل في قرية نعلين... سألني أبي بصوتٍ دافئٍ وخائف:

- جورين؟ أنتِ بخير؟

حاولتُ أن أتمالك نفسي، قمتُ بحبسِ الدمعات وقلتُ له:

- بخير يا أبي... بخير.

ثم انهمرت دموعي وأنا أعانقه وأشدّ بيدي على ظهره.

لغتكم مخيفة جدا !

كنتُ أتجوّل في شوارع الجامعة، فإذ بمجسّمٍ كرتونيّ للزنزانة في وجهي. وقفتُ أمامه أتساءل إن كانت حقاً شبيهة بالزنزانة الحقيقية... الزنزانة ليست مجسّماً وليست مبنى بل هي شكل الحياة التي بداخلها، هي التفاصيل... اقتربتُ أكثر لأتأكد من تفاصيلها وخطرت لي فكرة الدخول، ترددتُ قليلاً قبل أن أفتح الباب الكرتونيّ وأدخل؛ جدرانها خشنة، لا مكان لقضاء الحاجة، الطقس باردٌ جدّاً، أصوات كثيرة في الخارج، أحدهم يصرخ من التعذيب، السجّان يشتم بالّلغتين العبرية والعربية، الأصوات تجتاحني وتكاد تقتلني، طرق شديد على جدران الزنزانة المجاورة، أحدهم يصرخ "ثورة... ثورة... حرية" وما لبث أن بكى، سجان آخر يشتم أمه ويقول :"اعترف"... تراءت لي الحشرات تتسكّع على جسدي. مددتُ يدي على حذائي لأخلعه وما لبثتُ أن انفجرتُ باكيةً وخرجتُ من الزنزانة فإذ بي في ساحات الجامعة، والكثير من الطلاب والطالبات ينتظرون دورهم ليتفرّجوا على الزنزانة من الداخل، نظرتُ إليهم وإلى كل تلك الوجوه المستغربة، مشيتُ من بينهم وابتعدتُ صوب محاضرتي فيما كانت الدموع الحارّة تنساب على وجنتيّ. استرقتُ النظر إلى كلّ من حولي لأتأكد من أني أعرفهم أو على الأقل أعرف وجوههم. نظرتُ إلى المُحاضِر وتأكدتُ من أنه ليس سجّاناً، وبعدما تأكدتُ من كل شيء أخرجتُ كتابي ودفتر ملاحظاتي وقلمي وكتبتُ التاريخ والعنوان.

كل شيء صار انعكاساً لثلاثة شهورٍ في السجن، كل شيء، دقّات باب منزلنا، ودقّات كنائس بيرزيت وكل الدقّات هي طرق الجنود لباب منزلنا، أدواتنا اليومية هي أغراض السجينات، فقدتُ الإحساس بالعاديّ فقدتُ الأمان لأي طارقٍ وأي باب... خسرتُ الاطمئنان لأي غريبٍ يسأل عنّي، حتّى الكلمات العادية أخذت معنىً آخر غير الذي كانت تعنيه، صارت ترعبني، مثل: عدد... بلاطة... فورة... كنتينا... شاويش... قسم... غرفة.