شبكة قدس الإخبارية

ولادة جَبريّة .. عن رهط أتحدث

ايمان الصانع

 " البدوّي مخيّر في اسم ولده، ومنزل بيته"، لكنّ هذا بالضرورة كان قبل أن يجد نفسه أمام انهيار منظومته الاجتماعية واغتصاب حضاري لمجتمع بدوي تقليدي، واختراق قوانينه العشائرية الخاصّة التي كانت تشبه الى حد كبير في هيئتها الحكم الذاتي.

هذا السياج الإجتماعي الذي يميّز الفلسطيني في الصحراء كجزء من شعب تمتد جغرافيته الى البحر والجبل، حيث خصائصه الثقافية والاجتماعية وموارده الاقتصادية كانت متأثرة جدا بظروف مناخية وجغرافية تجعله الفلسطيني المُختلف قليلا ً عن " المشهد العام للشخصية الفلسطينية" حد العُزلة لربما والغرابة. وجد نفسه أمام ولادة قصرية لإعادة صياغة كينونته ومفهوم وجوده على خارطة فلسطين التاريخية، ولم يكن الداعي لها حاجة مجتمعية او عولمة وتغيّرات متسارعة في مجتمعه الاصغر انما .. نكبة!

وجدَ نفسه يحمل خيمته في عام النكبة كغيره من أبناء شعبه، يحمل خيمة التهجير والذبح وقتل المواشي والتضييق في التنقّل والهدم والتشريد، ويركض في كُل اتجاه، الى اللجوء او في عرض الصحراء او الى غزة والاردن.

150 ألف فلسطيني سُكان النقب بعد عام النكبة لم يتبق منهم الا في النقب إلا 10 آلاف. وفي سياسة لحصر تناثر من تبقّى من بدو الصحراء، قامت "اسرائيل" بتركيز ما أسمته التجمعات البدوية في منطقة محددة أطلقت عليها "منطقة السياج".

كان النهج في ذلك "تجميع أكبر عدد من العرب على أصغر مساحة جغرافية ممكنة وتوزيع أقل عدد من الإسرائيليين على أكبر مساحة جغرافية. نتيجة لهذا النهج فقد الكثيرون أراضيهم، وجزء آخر كان أوفر حظاً بالبقاء على أرضه. كانت تتمثل رؤية "إسرائيل" في جعل النقب جُعبة إحتياطية لاستيعاب اليهود الوافدين الجدد. إذن، "تهويد النقب" هي الرؤية الجلية لبن غوريون نفسه، وإحدى ترجمات هذه الخطّة على أرض الواقع مشروع "مناطق التركيز" السبع والتي كانت "مدينة رهط" واحدة من هذه المناطق.

عام 1972 تأسس التجمع السكاني رهط، ويبدو منذ هذا العام لم يعد البدوي مخيّراً في منزل بيته بشكل رسمي، ولا في اسم بلده. إذ إن "رهط" تعبير عبري مستوحى من التعابير التوراتية يحمل معنى "مكان تجمّع المواشي والدوّاب للسقاية".

في قفزة اضطرارية جبرية يجد هذا المجتمع نفسه لسبب ما  في اطار اجتماعي يسمّى "مدينة "، بعد أن كان مجتمعاً ريفياً قروياً، عائلات وعشائر مختلفة تم زجّها بالقوة السياسية وما تُسمى "صلاحية القانون" الذي بدا في جوهره أمنياً عسكرياً.

في إطار هذه "المدينة"، وعند التطرّق لأبرز الأزمات الحالية التي تطفو على الشاشات الاعلامية وصفحات الاحصاء المدني والصحف اليومية ومنها الفقر والعنف والبطالة والتخلّف عن المقاعد الاكاديمية وأزمة الطبقة الوسطى وانعدامها وفقدان جوهر الرواية، "رواية المدينة" والتي جعلت من الانتماء أزمة بين السراب وبقايا ذاكرة تستغيث في زوايا نفس رجل مسن، غياب البحث الأكاديمي والدراسات الموثّقة، جعلت جمهور المهتمين واصحاب القضيّة والشباب، الجيل الثالث بعد النكبة من سكان المدينة ربما متلقّفين لروايات كبار السن الشفهية حول حقيقة ما كان وإن كانت مخاطرة تقلل من المصداقية والموضوعية وعرضة لصدوع الذاكرة وانقطاع الخبر ولملمته واعادة ربط الاحداث بتحليلات شخصية ومقاربة الروايات، في هذه الهيكلة الاجتماعية الحالية لا بدّ من البدء من هذه النقطة من هذه الولادة الجبرية المستعجلة للمدينة لفهم اسقاطات هذه الولادة كسبب جعل من باقي الأزمات نتيجة منطقية على الاقل متشابكة الى حد بعيد.

بعد إفراغ الارض من الإنسان وحصره في بُقعة مكتظة سكانياً، نتحدث اليوم عن مدينة هي ثاني أكبر مدينة عربية في فلسطين المحتلة عام 1948 ، وأكبر مدينة عربية في الجنوب، أكثر من 50% من سُكان المدينة هم من الأطفال دون سن السابعة عشر.

تفتقر المدينة الى خطة اقتصادية عامة قادرة على استيعاب كل احتياجات سكانها، أو بُنية اقتصادية تتسع بشمولية لتكون بديلاً على الاقل لما كان موجود قبل سياسة تركيز عرب النقب، بعد أن كانت جل الموارد الاقتصادية تعتمد على تربية المواشي والتجارة فيها وزراعة القمح والتي تم حظرها على غرار عدة قوانين انهكت كاهل البدوي.

كل ذلك اجتمع ليجعل أكبر مدينة عربية في الجنوب هي أفقر المدن في سلم دولة الاحتلال، اذ ان اكثر من 60% من الاسر في المدينة هي تحت خط الفقر ، وتُعانى المدينة الى اليوم من النسب التي تتجاوز 50% من البطالة.

في ظل تطوّر عالم الاتصال، والذي لربما كانت وسيلة لإتصال الانسان بارضه، زيادة وعيه واثارة الاسئلة الكثيرة حول وجوده وظروف هذا الوجود، في ظل التطورّات السياسية والاقتصادية على مستوى العالم ككل ومستوى العالم العربي والوضع الفلسطيني بالأخص ، وقد غمر الربيع العربي هذه الارض حتى أزهرت مبادرات وحراكات شبابية متحمسة للتغيير والنهضة وتحسين الاوضاع الراهنة ، واذكر بالاخص المبادرات الشبابية الواعدة والواعية، منها انشاء اول مسرح عربي في النقب في مدينة رهط ، المبادرات الثقافية والفنية في تعريف الفلسطيني بالفلسطيني وتعريف الغير بالفلسطيني النقباوي على وجه الخصوص من خلال عروض فلكلورية ومعارض الصور والسينما والمبادرات الشخصية في اقامة مراكز تعريف بالنقب والمدينة حاضرا وماض وتصوّرات مستقبلية ، وجود المقاهي الأدبية ، والحركة الاجتماعية وتفاعل اهل المدينة مع هذه المظاهر الجديدة الايجابية وان كانت بطيئة الا انها في تقدّم، واخيرا انطلاق رابطة أكاديميي رهط كمبادرة أخرى تهدف الى رفع نسب الأكاديميين في المدينة وتبنّي بعض الرؤية والنشاطات الثقافية والمجتمعية.

لايماني بان الارض تُفقد بفقدها الإنسان، هذا الإنسان على هذه الارض بالذات هُو جزء من رواية توزّعت على الجبل والبحر وفي الصحراء، اذا فقدت أي من مشاهدها اختلّ النص وميزان القضية.