شبكة قدس الإخبارية

ما بين البارحة واليوم!

هبة إبراهيم

يا لسنوات مضت كنا ننصت لنشرة الأخبار والضحك يعتمرنا، ولم البكاء وأكبر خبر حزناً موت أحدهم باصطدام سيارته، ثم يليه عملية سطو محجمة لا تزيد عن اتساع دكان جارنا في آخر الحي، كلها كانت أنباء لا تعترض بسمتنا..ولا تحشر أنفها بشؤون بيتنا؛ نعم فلم ألحظ يوماً أمي استسلمت لمرضها الصامت " السكري"، ولم أسمع أبي يتذمر في حين كل ما يحدث يعارض ميولاته السياسية.

كانت أيام الدراسة أرجوحة تحملنا ما بين جدية المعلم وسخرية جديتنا، هبوط في أسهم المعدلات كصعوده، الأمر واحد، كل ما يهمنا حرصنا المتقن على صدى الضحكات، تلك التي تلف المحاضرة من كل صوب، تتراقص حول معدلات الكيمياء وتتلاعب بقواعد الرياضيات واللغة، لم تقتحم مدرجاتنا عبارات سياسية، ولم تشركنا تجمعاتنا ألفاظ عنصرية، كنا عقل موحد بقلم واحد، بنبرة لا تفترق.

كان لكل شيء نكهته، وأمام عبق الجوري كنا نصطف لنتوحد، كل شيء تغير، حتى نحن تبدلنا، لم نعد نحن هل تغيرنا؟ أم أجبرنا على التشكل كقالب تتقارب ملامحه ويومياتنا.

أضحك بقهر فشر البلية ما يضحك، حين أترقب يومياً نشراتنا الإخبارية، تعود بي ذاكرتي بل وتحملني مجبرة إلى المقارنة ما بين خبر اليوم وأخبار مضت، دفنتها الأعوام وبكت على أطلالها الصحف.

أذكر قطعة الحلوى التي كانت تهتز وسط الطبق، مغترة بحلاها الذي تألق وسط سهراتنا، لم تكن الدماء مشروب يغرينا أو يمس غرائزنا، كل ما كنا عليه لا يشبه ما نحن عليه، أصبحنا أولى متابعين النشرات الإخبارية رغم أننا آخر المشجعين، مسرحيات يومية، بسيناريو دموي، بتنا لا نعرف لها مخرجاً وبات الكاتب يلقي نصه ويفر هربًا.

ها نحن نواجه يوماً مؤسفًا، ساعته تعصف بموائدنا، ودقائقه تزغرد لعدونا، أخبار مؤلمة وأخرى تمزج جبالنا بسواحلنا، نصحو على صراخ أم تبكي حرقة على شقاء عمرها، وشيخ كره الحياة رغم صعوبة الاحتضار، نعم فلا يليق بنا الإنصات لذاك الطائر المغرد، حدائقنا خلت من ياسميننا الملفت وجاره الفل المزقزق.

ليت الشروق اكتفى بدمعة صباحية شقت طريقها مع وقت الضحى..بل امتد قطاره إلى عقارب دونت قرعتها لتخبرنا أن الآن موعد قيلولتنا ..يا لغدر العقارب أم يا لزمجرة الصحف..حتى تلك الدقائق المقدسة التي انحنى لأجلها التعب..ها هي تصرخ لا راحة من قسوة النبأ..هل التأفف سيفي بالغرض! أم علينا الاستغفار والشكر لرب شاء ذلك وقدر.

وصلنا إلى ما يقارب منتصف النهار ولا زال رشاش الخبر يقصدنا من كل صوب..منا جريح النظر وآخر أرداه حزناً مشهداً اختزل شكاوى الأمم.. يا لنهارنا كيف يمر فيقسم أن مسائه لن يفارقه..الأحداث متسلسة مترابطة..لا تؤمن بفارق الليل والنهار..ولا يكسر جبروتها حدة الغضب..هل لصالحنا اتحاد الليل ونهاره؟ وهل يناسبنا عناقهما في لحظة جميعنا ذاق الفراق؟ أم رضوخنا لانسجماهما هو الواقعة الأكبر!..حيث لم نلبث أن نتنفس الصعداء..فتأتي على عجل رقصة المساء.. تستفز ركود ستائره، ويسخر منا صوت النبأ.

نعم تقلقه راحتنا..كيف نؤمن بحركة التنويم dcc وها هو يرفض الدخول إلى مرحلة اللاوعي رغم جاذبية حسرتنا..لا يلفته شيئاً من رداءة ملامحنا فيشد زمام نضوجه..ويكبر كلما تحركت عقاربنا.

أتى المساء مبحلقاً عينيه فقد اتسعت رقعة الخبر، ظننا أن قدومه يد بيضاء تشبه مسحة رسول، أتى لا ليمسح عن وجتنا دهاليز خطتها دموع النهار، بل ليكمل مسيرة بسيفه ويهدد سلامة الوتر..نخشى تهوره فنضطر لتمثيل مشهد خجول..راضخ لعتمة الليل ولظلام الخبر..يبدأ يهل علينا أنباء طازجة ليس بوسعنا أن ننتقد معايير صناعتها..كل ما نقوى عليه متابعة هذا الخبر.

شاشة صماء عاجزة عن االحركة تنجح في تصنيع قطرات دموعنا دون إجراء تجارب إن كانت مالحة تلسعنا أم عذبة ترضيهم!...قطعة زجاجية رقيقة تكسرها ركلة رضيع تأخذ مساحة بيننا لتكسر عزيمة رجل؟، وتتلاعب بأنوثة جميلة!..تشرح تفاصيل زحمة سير دموية..وإن عاندها المشهد أبت..تريد المزيد.. فتتضائل رقعة ضحكتنا.

تحية لأخبار المساء، وقفة صمت لحكامنا العرب.. وتصفيقة وسط البلاد، بل قرعة فوق طبول العواصم.. كلهم اتحدوا سلباً..كلهم استسلموا لتفاهة العقول ولأعراس الدماء..ولمهرجان لن ينتهي بعد أن بدأ.

هذا حالنا..حال أطفال برقة الورق..رحم الله طفولة تجاوزت حدود المراهقة لتصل إلى شيخ يخلو من خطوط الدهر. وتلك هي يومياتنا فقد يسبقنا الخبر إلى الطبق..يسابق فرحتنا.. وينافس راحتنا.

نترجل نحو غرفتنا لكي نطلق آخر أنفاس الغضب..نتأمل الوسادة بشغف وكأن الشوق أضنانا أعواماً..نسعد بأول لمسة لها..ثم نشاء أن نلقي آخر نظرة على مكان تقبلنا رغم شؤم ملأ أعيننا..وما أن نقتنع أنها النظرة الأخيرة قبل اللجوء لخيار الراحة..تقع أعيننا على صورة لسياسي قد علقها أحدنا..نلتفت لزاوية أخرى هرباً من اشتعال شرارة القهر..فإذ بشعار لحاكم أو مسؤول بلد..نبدأ بالتأفف.. نشعر المكان ضاق رغم اتساعه..نتأمل وسادتنا من جديد وتلومها أحرفنا "حتى أنت فقدت ملامحك الجذابة!".

نفكر في أن نغادر المكان..وما هي إلا ثوان وإذ بنا أمام شاشة التلفاز عدنا كتلميذ مهذب..استقبلتنا كلمتين حفظهم الرمش قبل العين "خبر عاجل"..فتتبخر مشاعر النعاس وينتهي يومنا بغفوة فوق أريكة مغرية رغم بشاعة تعاليمها..قاسية تعبث بصدق سباتنا..لا خيار لنا.. وليس الحل عنادنا..نستسلم لها..نغفو بحضن قاس كتلك الآلة التي صنعتها..وكهدوء المصمم الذي جملها.